باب
التَّوبة
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
أحاديث
رياض الصالحين: باب التَّوبة
٢٢ - وعَنْ
عبْدِ اللَّهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالكٍ، وكانَ قائِدَ كعْبٍ -رضِي الله عنه- مِنْ
بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كعْبَ بنَ مَالكٍ -رضِي الله عنه-
يُحَدِّثُ بِحدِيِثِهِ حِين تخَلَّف عَنْ رسولِ اللهِ ﷺ، في غزوةِ تبُوكَ.
قَال كعْبٌ: لمْ أَتخلَّفْ عَنْ رسولِ الله ﷺ، في غَزْوَةٍ غَزَاها
إِلاَّ في غزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْر أَنِّي قدْ تخلَّفْتُ في غَزْوةِ بَدْرٍ، ولَمْ
يُعَاتَبْ أَحد تَخلَّف عنْهُ، إِنَّما خَرَجَ رسولُ الله ﷺ والمُسْلِمُونَ
يُريُدونَ عِيرَ قُريْش حتَّى جَمعَ الله تعالَى بيْنهُم وبيْن عَدُوِّهِمْ عَلَى
غيْرِ ميعادٍ. وَلَقَدْ شهدْتُ مَعَ رسولِ اللَّهِ ﷺ ليْلَةَ العَقبَةِ
حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلامِ، ومَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشهَدَ
بَدْرٍ، وإِن كَانتْ بدْرٌ أَذْكَرَ في النَّاسِ مِنهَا، وكانَ مِنْ خَبَري حِينَ
تخلَّفْتُ عَنْ رسولِ اللهِ ﷺ،
في غَزْوَةِ تبُوك أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى ولا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ
تَخلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزْوَة، واللَّهِ ما جَمعْتُ قبْلها رَاحِلتيْنِ
قطُّ حتَّى جَمَعْتُهُما في تِلْكَ الْغَزوَةِ، ولَمْ يكُن رسولُ الله ﷺ يُريدُ غَزْوةً إِلاَّ
ورَّى بغَيْرِهَا حتَّى كَانَتْ تِلكَ الْغَزْوةُ، فغَزَاها رسولُ الله ﷺ في حَرٍّ شَديدٍ،
وَاسْتَقْبَلَ سَفرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا. وَاسْتَقْبَلَ عَددًا كَثيرًا، فجَلَّى
للْمُسْلمِينَ أَمْرَهُمْ ليَتَأَهَّبوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ
بوَجْهِهِمُ الَّذي يُريدُ، وَالْمُسْلِمُون مَع رسولِ الله كثِيرٌ وَلاَ
يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ "يُريدُ بذلكَ الدِّيَوان" قَالَ كَعْبٌ:
فقلَّ رَجُلٌ يُريدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنَّ ذلكَ سَيَخْفي بِهِ مَا
لَمْ يَنْزِلْ فيهِ وَحْىٌ مِن اللَّهِ، وغَزَا رَسُول الله ﷺ تلكَ الغزوةَ حِينَ
طَابت الثِّمَارُ والظِّلالُ، فَأَنا إِلَيْهَا أَصْعرُ، فتجهَّز رسولُ الله ﷺ وَالْمُسْلِمُون معهُ،
وطفِقْت أَغدو لِكىْ أَتَجَهَّزَ معهُ فأَرْجعُ ولمْ أَقْض شَيْئًا، وأَقُولُ في
نَفْسى: أَنا قَادِرٌ علَى ذلِكَ إِذا أَرَدْتُ، فلمْ يَزلْ يَتَمادى بي حتَّى
اسْتمَرَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ، فأَصْبَحَ رسولُ الله ﷺ غَاديًا
والْمُسْلِمُونَ معَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازي شيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ
فَرَجَعْتُ وَلَم أَقْض شَيْئًا، فَلَمْ يزَلْ يَتَمادَى بِي حَتَّى أَسْرعُوا
وتَفَارَط الْغَزْوُ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِل فأَدْركَهُمْ، فَيَالىْتَني
فَعلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذلِكَ لي، فَطفقتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ
بَعْد خُرُوجِ رسُول اللهِ ﷺ
يُحْزُنُنِي أَنِّي لا أَرَى لِي أُسْوَةً، إِلاَّ رَجُلًا. مَغْمُوصًا عَلَيْه في
النِّفاقِ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ تعالَى مِن الضُّعَفَاءِ، ولَمْ
يَذكُرني رَسُولُ اللهِ ﷺ
حتَّى بَلَغ تَبُوكَ، فقالَ وَهُوَ جَالِسٌ في القوْمِ بتَبُوك: «ما فَعَلَ كعْبُ بْنُ مَالكٍ؟» فقالَ رَجُلٌ مِن
بَنِي سلمِة: يا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَالنَّظرُ في عِطْفيْه. فَقال
لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئس مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يا رَسُولَ اللهِ مَا
عَلِمْنَا علَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا، فَسكَت رَسُولُ اللهِ ﷺ. فبَيْنَا هُوَ علَى
ذَلِكَ رَأَى رَجُلًا مُبْيِضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «كُنْ أَبَا خَيْثمَةَ»، فَإِذا هوَ أَبُو خَيْثَمَةَ
الأَنْصَاريُّ وَهُوَ الَّذي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْر حِيْنَ لمَزَهُ المنافقون.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَّما بَلَغني أَنَّ
رَسُولَ اللهِ ﷺ
قَدْ توَجَّهَ قَافلا منْ تَبُوكَ حَضَرَني بَثِّي، فطفقتُ أَتذكَّرُ الكذِبَ
وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخطه غَدًا وَأَسْتَعينُ عَلَى ذلكَ بِكُلِّ ذِي
رَأْي مِنْ أَهْلي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قدْ أَظِلَّ قَادِماً
زاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ حَتَّى عَرَفتُ أَنِّي لم أَنج مِنْهُ بِشَيءٍ أَبَدًا
فَجَمَعَت صِدْقَة وَاُصْبُح رَسُول الله ﷺ قَادِما وَكَانَ إذا
قَدَّم مِنْ سَفَر بَدَأ بِالْمَسْجِد فَرُكَّع فِيهُ رَكَعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَس
لِلنَّاس فَلَمَّا فَعَلًّ ذَلِكَ جَاءهُ الْمُخلَّفُونَ يعْتذرُون إِليْه
وَيَحْلفُون لَهُ، وَكَانُوا بِضْعًا وثمَانين رَجُلا فَقَبِلَ منْهُمْ
عَلانيَتهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتغفَر لهُمْ وَوَكلَ سَرَائرَهُمْ إِلي الله تعَالى.
حتَّى جئْتُ، فلمَّا سَلَمْتُ تبسَّم تبَسُّم الْمُغْضب ثمَّ قَالَ: تَعَالَ،
فجئتُ أَمْشي حَتى جَلَسْتُ بيْن يَدَيْهِ، فقالَ لِي: «مَا
خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تكُنْ قَدِ أبْتَعْتَ ظَهْرَك»، قَالَ قُلْتُ: يَا
رَسُولَ الله إِنِّي واللَّه لَوْ جلسْتُ عنْد غيْركَ منْ أَهْلِ الدُّنْيَا
لَرَأَيْتُ أَني سَأَخْرُج منْ سَخَطه بعُذْرٍ، لقدْ أُعْطيتُ جَدَلا، وَلَكنَّني وَاللَّه
لقدْ عَلمْتُ لَئن حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذبٍ ترْضى به عنِّي
لَيُوشكَنَّ اللَّهُ يُسْخطك عليَّ، وإنْ حَدَّثْتُكَ حَديث صدْقٍ تجدُ علَيَّ
فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيه عُقْبَى الله عَزَّ وَجَلَّ، واللَّه ما كَانَ لِي
مِنْ عُذْرٍ، واللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسر مِنِّي حِينَ
تَخلفْتُ عَنك.
قَالَ:
فقالَ رسولُ الله ﷺ:
«أَمَّا هذَا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضيَ
اللَّهُ فيكَ» وسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلمة فاتَّبعُوني، فقالُوا لِي:
واللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذنْبتَ ذَنْبًا قبْل هذَا، لقَدْ عَجَزتَ في أنْ لا
تَكُون اعتذَرْت إِلَى رَسُول الله ﷺ بمَا اعْتَذَرَ
إِلَيهِ الْمُخَلَّفُون فقَدْ كَانَ كافِيَكَ ذنْبكَ اسْتِغفارُ رَسُول الله ﷺ لَك. قَالَ: فَوالله
ما زَالُوا يُؤنِّبُوننِي حتَّى أَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ إِلي رسولِ الله ﷺ فأَكْذِب نفسْي، ثُمَّ
قُلتُ لهُم: هَلْ لَقِيَ هَذا معِي مِنْ أَحدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ لقِيَهُ مَعَكَ
رَجُلان قَالا مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقيلَ لَهمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لكَ، قَال
قُلْتُ: مَن هُمَا؟ قالُوا: مُرارةُ بْنُ الرَّبِيع الْعَمْرِيُّ، وهِلال أبْن أُميَّةَ
الْوَاقِفِيُّ؟ قَالَ: فَذكَروا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْن قدْ شَهِدا بدْرًا
فِيهِمَا أُسْوَةٌ. قَالَ: فَمَضيْت حِينَ ذَكَروهُمَا لِي. وَنهَى رَسُول الله ﷺ عَنْ كَلامِنَا
أَيُّهَا الثلاثَةُ مِن بَين من تَخَلَّف عَنهُ، قالَ: فاجْتَنبَنا النَّاس أَوْ
قَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرت لِي في نَفْسي الأَرْضُ، فَمَا هيَ بالأَرْضِ
الَّتي أَعْرِفُ، فَلَبثْنَا عَلَى ذَلكَ خمْسِينَ ليْلَةً. فأَمَّا صَاحبايَ
فَاستَكَانَا وَقَعَدَا في بُيُوتهمَا يَبْكيَانِ وأَمَّا أَنَا فَكُنتُ أَشَبَّ
الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنتُ أَخْرُج فَأَشهَدُ الصَّلاة مَعَ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ في الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحدٌ، وآتِي رسولَ
الله ﷺ
فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُو في مجْلِسِهِ بعدَ الصَّلاةِ، فَأَقُولُ في نفسِي: هَل
حَرَّكَ شفتَيهِ بردِّ السَّلامِ أَم لاَ؟ ثُمَّ أُصلِّي قَريبًا مِنهُ
وأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقبَلتُ عَلَى صلاتِي نَظر إِلَيَّ، وإِذَا
الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتى إِذا طَال ذلكَ عَلَيَّ مِن جَفْوَةِ
الْمُسْلمينَ مشَيْت حَتَّى تَسوَّرْت جدارَ حَائط أبي قَتَادَةَ وَهُوَا أبْن
عَمِّي وأَحبُّ النَّاسَ إِلَيَّ، فَسلَّمْتُ عَلَيْهِ فَواللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ
السَّلامَ، فَقُلْت لَه: يَا أَبَا قتادَة أَنْشُدكَ باللَّه هَلْ تَعْلَمُني
أُحبُّ الله وَرَسُولَه ﷺ؟
فَسَكَتَ، فَعُدت فَنَاشَدتُه فَسكَتَ، فَعُدْت فَنَاشَدْته فَقَالَ: اللهُ
ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرتُ
الْجدَارَ فبَيْنَا أَنَا أَمْشي في سُوقِ المدينةِ إِذَا نَبَطيُّ منْ نبطِ
أَهْلِ الشَّام مِمَّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يبيعُهُ بالمدينةِ يَقُولُ: مَنْ
يَدُلُّ عَلَى كعْبِ بْنِ مَالكٍ؟ فَطَفقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَى حَتَّى
جَاءَني فَدَفَعَ إِلي كتَابًا منْ مَلِكِ غَسَّانَ، وكُنْتُ كَاتِبًا.
فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بلَغَنَا أَن صاحِبَكَ
قدْ جَفاكَ، ولمْ يجْعلْك اللَّهُ بدَارِ هَوَانٍ وَلا مَضْيعَةٍ، فَالْحقْ بِنا
نُوَاسِك، فَقلْت حِين قرأْتُهَا: وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْبَلاءِ فَتَيمَّمْتُ
بِهَا التَّنُّور فَسَجرْتُهَا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُون مِن الْخَمْسِينَ
وَاسْتَلْبَثِ الْوَحْيُ إِذَا رسولِ رسولِ الله ﷺ يَأْتِينِي، فَقَالَ:
إِنَّ رسولَ الله ﷺ
يَأَمُرُكَ أَنْ تَعْتزِلَ أمْرأَتكَ، فقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا، أَمْ مَاذا أَفعْلُ؟
قَالَ: لاَ بَلْ اعتْزِلْهَا فَلاَ تقربَنَّهَا، وَأَرْسلَ إِلي صَاحِبيَّ
بِمِثْلِ ذلِكَ. فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: الْحقِي بِأَهْلكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ
حَتَّى يَقْضِيَ اللُّهُ في هذَا الأَمر، فَجَاءَت أمْرأَةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ
رسولَ الله ﷺ
فقالتْ لَهُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ هِلالَ بْنَ أُميَّةَ شَيْخٌ ضَائعٌ ليْسَ
لَهُ خادِمٌ، فهلْ تَكْرهُ أَنْ أَخْدُمهُ؟ قَالَ: "لاَ،
وَلَكِنْ لاَ يَقْربَنَّك" فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّه مَا بِهِ مِنْ
حَركةٍ إِلَى شَيءٍ، وَوَاللَّه مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا
كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا. فَقَال لِي بعْضُ أَهْلِي: لَو اسْتأَذنْت رسولِ
اللهِ ﷺ
في أمْرَأَتِك، فقَدْ أَذن لامْرأَةِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ؟
فقُلْتُ: لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رسولَ الله ﷺ، ومَا يُدْريني مَاذا
يَقُولُ رسولُ الله ﷺ
إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فلَبِثْتُ بِذلك عشْر ليالٍ،
فَكَمُلَ لَنا خمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حينَ نُهي عَنْ كَلامنا.
ثُمَّ
صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صباحَ خمْسينَ لَيْلَةً عَلَى ظهْرِ بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِنَا، فَبينَا أَنَا جَالسٌ عَلَى الْحال الَّتي ذكَر اللَّهُ تعالَى
مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَليَّ الأَرضُ بمَا رَحُبَتْ،
سَمعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أوفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ
بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، فخرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ
فَآذَنَ رسولُ الله ﷺ
النَّاس بِتوْبَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا حِين
صَلَّى صَلاة الْفجْرِ فذهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُوننا، فذهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ
مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِليَّ فرَسًا وَسَعَى ساعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي
وَأَوْفَى عَلَى الْجَبلِ، وكَان الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فلمَّا
جَاءَنِي الَّذي سمِعْتُ صوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا
إِيَّاهُ ببشارَته واللَّه مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يوْمَئذٍ، وَاسْتَعَرْتُ
ثَوْبَيْنِ فَلَبسْتُهُمَا وانْطَلَقتُ أَتَأَمَّمُ رسولَ الله ﷺ يَتَلَقَّانِي
النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونني بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُون لِي:
لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ الله عَلَيْكَ، حتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رسولُ
الله ﷺ
جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طلْحَةُ بْنُ عُبَيْد اللهِ -رضي الله عنه-
يُهَرْوِل حَتَّى صَافَحَنِي وهَنَّأَنِي، واللَّه مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ
الْمُهاجِرِينَ غَيْرُهُ، فَكَان كَعْبٌ لاَ يَنْساهَا لِطَلحَة.
قَالَ
كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ الله ﷺ، قَالَ: وَهوَ
يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُور «أَبْشِرْ بِخَيْرِ
يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ، مُذْ ولَدَتْكَ أُمُّكَ» فقُلْتُ: أمِنْ عِنْدِكَ
يَا رَسُول اللَّهِ أَم مِنْ عِنْد الله؟ قَالَ: «لاَ
بَلْ مِنْ عِنْد الله عَزَّ وَجَلَّ»، وكانَ رسولُ الله ﷺ إِذَا سُرَّ اسْتَنارَ
وَجْهُهُ حتَّى كَانَّ وجْهَهُ قِطْعَةُ قَمر، وكُنَّا نعْرِفُ ذلِكَ مِنْهُ،
فلَمَّا جلَسْتُ بَيْنَ يدَيْهِ قُلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي
أَنْ أَنْخَلِعَ مِن مَالى صدَقَةً إِلَى اللَّهِ وإِلَى رَسُولِهِ.
فَقَالَ
رَسُول الله ﷺ:
«أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْر لَكَ»،
فَقُلْتُ إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذي بِخيْبَر. وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله
إِن الله تَعَالَى إِنَّما أَنْجَانِي بالصِّدْقِ، وَإِنْ مِنْ تَوْبَتي أَن لا
أُحدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا ما بَقِيتُ، فوالله مَا علِمْتُ أَحَدًا مِنَ المسلمِين
أَبْلاْهُ اللَّهُ تَعَالَى في صدْق الْحَديث مُنذُ
ذَكَرْتُ ذَلكَ لرِسُولِ الله ﷺ
أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهِ مَا تَعمّدْت كِذْبَةً
مُنْذُ قُلْت ذَلِكَ لرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى يَوْمِي هَذَا،
وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفظني اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَقِي، قَالَ:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّهُ
بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا
ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} حَتَّى بَلَغَ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
[التوبة: ١١٧-١١٩].
قالَ
كعْبٌ: واللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ إِذْ
هَدانِي اللَّهُ لِلإِسْلام أَعْظمَ في نَفسِي مِنْ صِدْقي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَن لاَّ أَكُونَ
كَذَبْتُهُ، فأهلكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا إِن الله تَعَالَى قَالَ
للَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأحدٍ، فَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ
إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ
إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ
لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى
عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: ٩٥-٩٦].
قَالَ
كَعْبٌ: كنَّا خُلِّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْر أُولِئَكَ الَّذِينَ
قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ حَلَفوا لَهُ،
فبايعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وِأرْجَأَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أمْرَنا حَتَّى قَضَى
اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ بِذَلكَ، قَالَ اللُّه تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}.
وليْسَ
الَّذي ذَكَرَ مِمَّا خُلِّفنا تَخَلُّفُنا عَن الغَزْو، وَإِنَّمَا هُوَ
تَخْلَيفهُ إِيَّانَا وإرجاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ واعْتذَرَ إِليْهِ
فَقَبِلَ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عليه.
وفي
رواية: "أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ
خَرَجَ في غَزْوةِ تَبُوك يَوْمَ الخميسِ، وَكَان يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ
الخمِيس".
وفي
رِوَايةٍ: "وَكَانَ لاَ يَقدُمُ مِنْ سَفَرٍ إِلاَّ نهَارًا في الضُّحَى.
فَإِذَا قَدِم بَدَأَ بالمْسجدِ فصلَّى فِيهِ ركْعتيْنِ ثُمَّ جَلَس فِيهِ".
الشرح:
هذا
حديثُ كعب بن مالك، في قصَّةِ تَخَلُّفهِ عن غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في السنة
التاسعة من الهجرة.
غزا
النبي ﷺ
الروم وهم على دين النصارى حين بَلَغَهُ أنهم يجمعون له، فغزاهم النبي -عليه
الصلاة والسلام- وقام بتبوك عشرين ليلة، ولكنه لم يرَ كيدًا ولم يرَ عدوّا فرجع.
وكانت هذه الغزوة في أيام الحرِّ حين طابت الثمار وصار المنافقون يحبُّون الدنيا
على الآخرة، فتخلَّفَ المنافقون عن هذه الغزوة ولجأوا إلى الظل والرطب والتمر،
وبعدتْ عليهم الشُّقَّة -والعياذ بالله.
أما
المؤمنون الخُلَّص، فإنهم خرجوا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يُثْنِ عزمهم
بُعْدُ الشُّقَّة ولا طيب الثمار.
إلا أن كعب بن مالك -رضي الله عنه- تخلَّف عن غزوة تبوك بلا عذر، وهو من المؤمنين
الخُلَّص، ولهذا قال: (إنه ما تخلف عن رسول الله ﷺ عن غزوة غزاها قط) كل
غزوات الرسول ﷺ
قد شارك فيها كعب -رضي الله عنه- فهو من المجاهدين في سبيل الله إلا في غزوة بدر،
فقد تخلَّف فيها كعب وغيره لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- خرج من المدينة لا
يريد القتال، ولذلك لم يخرج معه إلا ثلاثمائةٍ وبضعة عشر رجلًا فقط؛ لأنهم كانوا
يريدون أن يأخذوا عيرًا لقريش، أي: إبل محمَّله قدمت من الشام تريد مكة وتَمُرُّ
بالمدينة.
فخرج
النبي -عليه الصلاة والسلام- من أجل أن يستقبل هذه العير ويأخذها، وذلك لأن أهل
مكة أخرجوا النبي ﷺ
وأصحابه من ديارهم وأموالهم؛ فلهذا كانت أموالهم غنيمةً للنبي -عليه الصلاة
والسلام- ويحل له أن يخرج ليأخذها، وليس في ذلك عدوان من رسول الله ﷺ وأصحابه، بل هذا أخذٌ
لبعض حقهم.
خرج الرسول ﷺ
في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا ليس معهم إلا سبعون بعيرًا وفَرسَان فقط؛ وليس معهم
عُدَّةٌ والعدد قليل، ولكنَّ الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد لينفِّذَ
الله ما أراد -عز وجل.
فسمع
أبو سفيان -وهو قائد العير- أن النبي ﷺ خرج إليه ليأخذ العير؛
فعدل عن سيره إلى الساحل وأرسل إلى قريش صارخًا يستنجدهم –أي: يستغيثهم- ويقول:
هلمُّوا أنقذوا العِير.
فاجتمعت
قريش، وخرج كُبراؤها وزُعماؤها وشُرفاؤها فيما بين تسعمائةٍ إلى ألف رجل.
خرجوا
كما قال الله عنهم، خرجوا من ديارهم: {بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنفال: ٤٧]، ولما كانوا
في أثناء الطريق وعلموا أن العير نَجَت تراجعوا فيما بينهم وقالوا: العير نجت، فما
لنا وللقتال؟ فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدرًا فنقيم فيها ثلاثا ننحرُ
الجزور، ونسقى الخمور، ونطعمُ الطعام، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا!
هكذا
قالوا، بطرًا واستكبارًا وفخرًا، ولكن -الحمد لله- صارت العرب تتحدث بهم بالهزيمة
النكراء التي لم يَذُق العرب مثلها، لما التقوا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- وكان
ذلك في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم السابع عشر منه، التقوا فأوحى
الله -عز وجل- إلى الملائكة: {أَنِّي مَعَكُمْ
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ} [الأنفال: ١٢]، انظر! في الآية تثبيتٌ للمؤمنين
وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، فما أقربَ النصر في هذه الحال؟ رعب في قلوب
الأعداء، وثبات في قلوب المؤمنين.
فثبَّتَ الله المؤمنين ثباتًا عظيمًا، وأنزل في قلوب الذين كفروا الرعب.
قال
الله سبحانه: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: ١٢]، أي: كل مفْصَل،
اضربوا فالأمر مُيَسَرٌ لكم.
فجعل
المسلمون -ولله الحمد- يجلدون فيهم؛ فقتلوا سبعين رجلًا وأسروا سبعين رجلًا،
والذين قُتلوا ليسوا من أطرفهم، الذين قُتلوا كلهم من صناديدهم وكبرائهم، وأُخذَ
منهم أربعةُ وعشرون رجلًا يُسحَبون سحبًا وألقوا في قليب من قُلُبِ بدر، سُحبوا
حتى أُلقوا في القليب جثثًا هامدة، ووقف عليهم النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال
لهم: يا فلان ابن فلان، يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم «هل
وجدتم ما وعَدَ ربكُم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا». فقالوا: يا رسول
الله، كيف تكلم أناسًا قد جيّفوا؟ قال: «والله ما
أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون»؛ لأنهم موتى، وهذه -ولله
الحمد- نعمة، علينا أن نشكر الله -عز وجل- عليها كلما ذكرناها.
نصر الله نبيه، وسمى الله هذا اليوم: {يَوْمَ
الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: ٤١].
هذا
اليوم فرق الله فيه الحق والباطل تفريقًا عظيمًا. وانظر إلى قدرة الله -عز وجل- في
هذا اليوم، انتصر ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلًا على نحو الف رجل أكمل منهم عُدَّةً
وأقوى، وهؤلاء ليس معهم إلا عدد قليل من الإبل والخيل، لكنَّ نصر الله -عز وجل-
إذا نزل لقوم لم يقم أمامهم أحد، وإلى هذا أشار الله بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}،
ليس عندكم شيء {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} [آل عمران: ١٢٣]، ولما كان المسلمون حين فتحوا مكة
وخرجوا باثني عشَرَ الفًا وأمامهم هوزان وثقيف؛ فأعجب المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن
نُغلَب اليوم عن قلَّة، فغلبهم ثلاثةُ آلافٍ وخمس مائة رجل. غلبوا اثني عشر ألف
رجلٍ بقيادة النبي ﷺ؛
لأنهم أعجبوا بكثرتهم، قالوا: لن نغلب اليوم عن قلَّة، فأراهم الله -عز وجل- أن
كثرتهم لن تنفعهم.
قال
الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: ٢٥].
أتدرون
ماذا حَصَلَ لأهل بدر؟
اطَّلع
الله عليهم وقال لهم: اعمَلُوا ما شئتم فقد غَفَرتُ لكم.
كل
معصيةٍ تقعُ منهم فإنها مغفورة، لأن الثمن مقدَّم.
فهذه الغزوة صارت سببًا لكل خير، حتى إن حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- لما
حصَلَ منه ما حَصَل في كتابه لأهل مكة عندما أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن
يغزوهم غزوة الفتح كتب هو -رضي الله عنه- إلى أهل مكة يخبرهم، ولكن الله أَطْلَعَ
نبيّه على ذلك. أرسل حاطب بن أبي بلتعة الكتاب مع امرأة فأُخبرَ النبي ﷺ بذلك عن طريق الوحي،
فأرسل علي بن أبي طالب وواحدًا معه حتى لحقوها في روضة تسمى روضة خاخ، فأمسكوها
وقالوا لها: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، فقالوا لها: أين الكتاب؟ والله ما
كَذَبْنا ولا كُذِبْنا، أين الكتاب؟ لتخرجنَّه أو لننزعنَّ ثيابك؟ فلما رأت ذلك
أخرجته، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، فأَخَذوه.
والحمد
لله أنه لم يصلْ إلى قريش، فصار في هذا نعمة من الله على المسلمين وعلى حاطب، لأن
الذي أراد ما حصل من نعمة الله.
فلما
ردوا الكتاب إلى النبي ﷺ
قال له: «يا حاطب، ما هذا؟» فاعتذر.
فقال
عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عُنُقَ هذا المنافق، قال له النبي -عليه الصلاة
والسلام-: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك، لعل الله
اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غَفَرتُ لكم».
وكان
حاطب من أهل بدر -رضي الله عنه.
فالمهمُّ أن هذه تخلف عنها كعب، لكنها ليست في أول الأمر، إلا في ثاني الحال؛ لأن
النبي ﷺ لم
يخرج لقتال، وإنما خرج للعير، ولكن الله جمع بينه وبين عدوِّه على غير ميعاد،
وكانت غزاةً مباركةً ولله الحمد. ثم ذكر بيعته النبي ﷺ ليلة العقبة في
منى، حيث بايعوا النبي ﷺ على
الإسلام وقال: إنني لا أحبُّ أن يكون لي بدلها بدر.
يعني: هي أحبُّ إليه من غزوة؛ لأنها بيعة عظيمة.
لكن يقول: كانت بدر أذْكَرَ في الناس منها، أي: أكثر ذكرًا، لأن الغزوة اشتُهرت
بخلاف البيعة.
على كل حال -رضي الله عنه- يُسلِّي نفسه بأنه إن فاتته بدر فقد حصلت له بيعة
العقبة، فرضي الله عن كعب وعن جميع الصحابة.
يقول رضي الله عنه: إني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفت عنه
في تلك الغزوة -أي: غزوة تبوك- كان قويَّ البدن، ياسر الحال، حتى إنه كان
عنده راحلتان في تلك الغزوة، وما جمع راحلتين في غزوة قبلها أبدًا، وقد استعد
وتجهَّزَ -رضي الله عنه- وكان من عادة النبي ﷺ أنه
إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، أي: أظهر خلاف ما يريد، وهذا من حكمته وحنكته في
الحرب، لأن لو أظهر وجهه تبيّن ذلك لعدوِّه، فربما يستعد له أكثر، وربما يذهب عن
مكانة الذي قصده النبي ﷺ فيه.
فكان مثلاً إذا أراد أن يخرج إلى الجنوب ورَّى وكأنه يريد أن يخرج إلى الشمال، أو
أراد أن يخرج إلى الشرق ورَّى وكأنه يريد أن يخرج إلى الغرب حتى لا يطَّلع العدو
على أسراره . إلا في غزوة تبوك، فإن النبي ﷺ بين أمرها
ووضَّحها وجلاَّها لأصحابه؛ وذلك لأمور:
أولاً: أنها كانت في شدة الحر حين طابت الثمار، والنفوس مجبولة على الركون إلى
الكسل وإلى الرخاء.
ثانيا: أن المدى بعيد من المدينة إلى تبوك، ففيها مفاوز ورمالٌ وعطشٌ وشمس.
ثالثاً: أن العدو كثير وهم الروم، اجتمعوا في عدد هائل حسب ما بلغ النبي ﷺ، فلذلك جلّى أمرها
وأوضح أمر الغزوة، وأخبر أنه خارج إلى تبوك إلى عدوٍّ كثير، وإلى مكان بعيد حتى
يتأهب الناس. فخرج المسلمون مع رسول الله ﷺ ولم يتخلَّف إلا
من خذله الله بالنفاق، وثلاثة رجال فقط هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال
بن أمية -رضي الله عنهم.
هؤلاء
من المؤمنين الخُلَّص، لكن تخلَّفوا لأمر أراده الله -عز وجل- أما غيرهم ممن
تخلَّف فإنهم منافقون منغمسون في النفاق، نسأل الله العافية. فخرج النبي -عليه
الصلاة والسلام- بأصحاب وهم كثير- إلى جهة تبوك حتى نزل بها، ولكن الله تعالى، لم
يجمع بينه وبين عدوه، بل بقي عشرين يوماً في ذلك المكان، ثم انصرف على غير حرب.
يقول كعب بن مالك -رضي الله عنه-: إن الرسول ﷺ تجهَّز هو والمسلمون
وخرجوا من المدينة.
أما
هو -رضي الله عنه- فتأخَّر وجعل يغدو كل صباح يرحِّل راحلته ويقول: الْحَق بهم،
ولكنه لا يفعل شيئًا، ثم يفعل كل يوم، حتى تمادى به الأمر ولم يدرك.
وفي
هذا دليل على أن الإنسان إذا لم يبادر بالعمل الصالح فإنه - حَرِيٌ أن يُحرمَ
إياه، كما قال الله سبحانه: {وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: ١١٠]، فالإنسان إذا
علم الحق ولم يقبله ويذعنْ له من أول وهلة، فإن ذلك قد يفوته ويحرم إياه -والعياذ
بالله- كما أن الإنسان إذا لم يصبر على المصيبة من أول الأمر فإنه يُحرَمُ أجرها،
لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إنما الصبر عند
الصدمة الأولى».
فعليك
-يا أخي- أن تبادر بالأعمال الصالحة، ولا تتأخر فتتمادى بك الأيام ثم تعجز وتكسل
ويغلب عليك الشيطان والهوى فتتأخر، فها هو -رضي الله عنه- كل يوم يقول: أخرُج،
ولكن تمادى به الأمر ولم يخرج.
يقول:
فكان يَحِزُّ في نفسه أنه إذا خرج إلى سوق المدينة وإذا المدينة ليس فيها رسول
الله ﷺ،
ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا على، ولا السابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار إلا رجل مغموس في النفاق -والعياذ بالله- قد غمسه نفاقه فلم يخرج، أو رجل
معذور عذره الله -عز وجل- فكان يعتب على نفسه: كيف لا يبقى في المدينة إلا هؤلاء
وأقعد معهم. ورسول الله ﷺ
لم يذكره ولم يسأل عنه حتى وَصَلَ إلى تبوك.
فبينما
هو جالس وأصحابه في تبوك سأل عنه، فقال رسول الله: «أين
كعب بن مالك؟» فتكلم فيه رجل من بني سلمه وغمزه، ولكن دافع عنه معاذ ابن
جبل -رضي الله عنه- فسكت النبي ﷺ
ولم يجب بشيء، لا على الذي غمزه ولا على الذي ردَّ.
فبينما
هو كذلك إذ رأى رجلًا مبيَّضًا، يعني: بياضًا يزول به السراب من بعيد، فقال النبي ﷺ: «كنْ أبا خيثمة الأنصاري» فكان أبا خيثمة.
وهذا
إمَّا من فراسةِ النبي -عليه الصلاة والسلام- وإمَّا من قوة نظره ﷺ.
ولا
شك أنه من أقوى الرجال نظرًا وسمعًا ونطقًا وفي كل شيء.
وأعطي
قوةَ ثلاثين رجلًا بالنسبة للنساء -عليه الصلاة والسلام- وكذلك أعطي قوةً في غير
ذلك -صلوات ربي وسلامه عليه.
وأبو
خثيمة هذا هو الذي تصدَّق بصاعٍ عندما حثَّ النبي ﷺ على الصدقة، فتصدَّق
الناس كل بحسب حاله. فكان الرجل إذا جاء بالصدقة الكثيرة قال المنافقون: هذا
مُراءٍ ما أكثر الصدقة ابتغاء وجه الله، وإذا جاء الرجل الفقير بالصدقة اليسيرة
قالوا: إن الله غنيٌّ عن صاعِ هذا.
انظر
-والعياذ بالله- يَلمزون المؤمنين من هُنا ومن هنا، كما قال الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}
[التوبة: ٧٩]،
أي: إذا تصدَّقوا بما يستطيعون قالوا: إن الله غني عن صاعك.
وهكذا المنافق شرٌّ على المسلمين، فإن رأى أهل الخير لمزهم وإن رأى المقصِّرين لمزهم،
وهو أخبثُ عباد الله، فهو في الدَّرك السفل من النار. والمنافقون في زمننا هذا إذا
رأوا أهل الخير وأهل الدعوة وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا: هؤلاء
متزمِّتون، هؤلاء متشدِّدون، وهؤلاء أصوليون، هؤلاء رجعيون، وما أشبه ذلك من
الكلام.
فكل
هذا مَوروثٌ عن المنافقين في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلى يومنا هذا.
لا
تقولوا: ليس عندنا منافقون! بل عندنا منافقون ولهم علامات كثيرة!
وقد
ذكر ابن القيم -رحمه الله- في كتابه مدارج السَّالكين في الجزء الأول: صفاتٍ كثيرة
من صفات المنافقين، كلها مبيَّنة في كتاب الله -عز وجل- فإذا رأيت الإنسان إذا
تكلم الناس عنده في أهل الخير قال: هذا متزمت، هذا متشدد، وإذا رأى الإنسان المحسن
الذي بقدر ما عنده يحسن قال: هذا بخيل، الله غنيٌ عن صدقته. وإذا رأيت رجلًا يلمزُ
المؤمنين من هنا ومن هنا، فاعلم أنه منافق -والعياذ بالله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[التوبة: ٧٩].
فاستفدنا
من الحديث فائدتين عظيمتين:
الفائدة
الأولى: أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لا بدَّ أن يتقدم ولا
يتهاون أو يتكاسل.
وأذكرُ
حديثًا قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- في الذين يتقدمون إلى المسجد ولكن لا
يتقدمون إلى الصف الأول، بل يكونون في مؤخره. قال: «لا
يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله».
إذا
عوَّد الإنسان نفسه على التأخير أخره الله -عز وجل- فبادر بالأعمال الصالحة من حين
أن يأتي طلبها من عند الله -عز وجل.
الفائدة
الثانية: أن المنافقين يلمزون المؤمنين، إن تصدَّقَ المسلمون بكثير قالوا: هؤلاء
مراؤون، وإن قلَّلوا بحسب طاقتهم قالوا: إن الله غنيٌ عن عملك وغنيٌ عن صاعك، كما
سبق.
وقد
ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من تصدَّقَ
بعَدْلِ تمرة من كسب طيِّب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبَّلها بيمينه،
ثم يربِّيها لصاحبه -أي: بما يعادل تمرة- كما
يربي أحدكم فَلُوَّه -أي: مهره الحصان الصغير- حتى
تكون مثل الجبل»، وهي تمرة أو ما يعادلها.
بل
قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»، أي: نصف تمرة، بل
قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
[الزلزلة: ٧-٨]،
والله سبحانه وتعالى، لا يضيع أجر المحسنين.
يقول -رضي الله عنه-: إنه لما بلغه أن النبي ﷺ رجع قافلًا من الغزو،
بدأ يفكر ماذا يقول لرسول الله ﷺ
إذا رجع؟ يريد أن يتحدَّث بحديث وإن كان كذبًا، من أجل أن يعذره النبي ﷺ فيه،
وجعل يُشاور ذوي الرأي من أهله ماذا يقول، ولكن يقول -رضي الله عنه-: فلما بلغ
النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة، ذهب عنه كلِّ ما جمعه من الباطل، وعزم على
أن يُبَيِّنَ للنبي ﷺ
الحق، يقول: فقدم النبي ﷺ
المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي
في المسجد -عليه الصلاة والسلام- وهكذا أمر جابرًا -رضي الله عنه- كما سأذكره إن
شاء الله، فدخل المسجد وصلَّى وجَلَسَ للناس فجاءه المخلَّفون الذين تخلفوا من غير
عُذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فيبايعهم ويستغفرُ لهم ولكن
ذلك لا يفيدهم والعياذ بالله؛ لأن الله قال: {اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: ٨٠]، فيقول: أما
أنا فعزمت أن أصْدُقَ النبي -عليه الصلاة والسلام- وأخبره بالصدق، فدخلت المسجد
فسلَّمت عليه، فتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب -أي: الذي غير راضٍ عني- ثم قال: «تعالَ» فلما دنوتُ منه قال لي: «ما خلَّفك؟».
فقال
-رضي الله عنه-: يا رسول الله إني لم أتخلَّف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي
هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيتُ جدلًا
-يعني: لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفتُ كيف أتخلَّص منه لأن الله أعطاني
جدلًا- ولكني لا أحدِّثُكَ اليوم حديثا ترضى به عني فيوشك أن يسخط الله عليَّ في
ذلك -رضي الله عنه.
انظر
إلى الإيمان! قال: لا يمكن أن أحدِّثك بالكذب، ولو حدثتُك بالكذب، ورضيتَ عني
اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله عليَّ. فأخبر النبي ﷺ بالصِّدق، فأجَّله.
وفي هذا من الفوائد:
أولًا:
أن الله سبحانه وتعالى، قد يَمُنُّ على العبد فيعصمه من المعصية إذا علم من قلبه
حُسن النية.
فإنَّ
كعبا -رضي الله عنه- لما هم أن يُزَوِّرَ على الرسول -عليه الصلاة والسلام- جلّى
الله ذلك عن قلبه وأزاحه عن قلبه، وعزم على أن يصدِّق النبي -عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا:
أنه ينبغي للإنسان إذا قدِمَ بلده، أن يعمِدَ إلى المسجد قبل أن يدخل إلى بيته
فيصلي فيه ركعتين، لأن هذه سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- القوليّة والفعليّة
أما الفعلية: فكما في حديث كعب بن مالك.
وأما
القولية: فإن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- حين باع على النبي ﷺ جَمَله في أثناء
الطريق واستثنى أن يركبه إلى المدينة وأعطاه النبي ﷺ شرطه، فقدم جابر
المدينة وقد قدم النبي ﷺ
قبله فجاء إلى رسول الله فأمره أن يدخل المسجد ويصلي ركعتين.
وما
أظن أحدًا من الناس اليوم -إلا قليلًا- يعمل هذه السنة، وهذا لجهل الناس بهذا،
وإلا فهو سهل والحمد لله.
وسواء
صليت في مسجدك الذي كنت تصلي فيه القريب من بيتك، أو صليت في أدنى مسجد من مساجد
البلد الذي أنت فيه حصلت السنَّة.
ثالثًا:
أن كعب بن مالك -رضي الله عنه- رجل قوي الحجة فصيح، ولكنْ لتقواه وخوفه من الله
امتنع أن يكذب، وأخبر النبي ﷺ
بالحق.
رابعًا:
أن الإنسان المغضب قد يتبسَّم، فإذا قال قائل: كيف أعرفُ أن هذا تبسَّم رضا أو
تبسَّم سخط؟
قلنا:
إن هذا يُعرف بالقرائن، كتلوُّن الوجه وتغيره.
فالإنسان
يعرف أن هذا الرجل تَبَسَّمَ رضًا بما صنع أو تبسَّم سخطًا عليه.
خامسًا:
أنه يجوز للإنسان أن يسلِّم قائمًا على القاعد؛ لأن كعبا سلَّم وهو قائم، فقال له
النبي -عليه الصلاة والسلام-: «تعال».
سادسًا:
أن الكلام عن قُرب أبلغ من الكلام عن بُعد، فإنه كان بإمكان الرسول ﷺ أن يكلِّمَ كعب بن
مالك ولو كان بعيدًا عنه، لكنه أمرَهُ أن يدنو منه؛ لأن هذا أبلغ في الأخذ والردِّ
والمعاتبة، فلذلك قال له الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «ادنُ».
سابعًا:
كمال يقين كعب بن مالك -رضي الله عنه- حيث إنه قال: إنني أستطيع أن أخرج بعذر من
الرسول -عليه الصلاة والسلام- ولكن لا يمكن أن أخرج منه بعذر يعذرني فيه اليوم ثم
يغضب الله عليَّ فيه غدًا.
ثامنًا:
إن الله يعلم السر وأخفى، فإن كعبًا خاف أن يسمع الله قوله ومحاورته للرسول-عليه
الصلاة والسلام- فيُنزلُ الله فيه قرآنًا، كما أنزل في قصة المرأة المجادلة التي
جاءت إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- تشكو زوجها حين ظاهرَ منها، فأنزل الله
فيها آية من القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ
تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: ١].
يقول
كعب: إنه أتى إلى الرسول ﷺ
وصدَقَهُ القول وأخبرهُ أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع
راحلتين في غزوة قبل هذه.
فقال النبي ﷺ:
«أما هذا فقد صَدَق» ويكفي له فخرًا أن
وَصَفَهُ النبي -عليه الصلاة والسلام- بالصدق: «أمّا هذا
فقد صدق، فاذهب حتى يقضي الله فيك ما شاء». فذهب الرجل مُسْتَسلمًا لأمر
الله -عز وجل- مؤمنًا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فلَحِقَهُ
قوم من بني سلمة من قومه وجعلوا يزيِّنون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم
تُذنب ذنبًا قبل هذا، يعني: مما تخلَّفت به عن رسول الله ﷺ ويكفيك أن يستغفر لك
رسول الله ﷺ
وإذا استغفر لك الرسول ﷺ
غفرَ الله لك، فارجع كذِّب نفسك، قل: إني معذور، حتى يستغفر لك الرسول -عليه
الصلاة والسلام- فيمن استغفر لهم ممن جاؤوا يعتذرون إليه. فهمَّ أن يفعل -رضي الله
عنه- ولكن الله سبحانه، أنقذه وكتب له هذه المنقَبَة العظيمة التي تُتْلي في كتاب
الله إلى يوم القيامة.
فسأل
قومه: هل أحدٌ صَنَعَ مثلما صَنَعْتُ؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية ومُرارة بن
الربيع، قالا: مثلما قلت، وقيل لهما: مثلما قيل لك.
يقول:
(فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا لي فيهما أُسوة).
أحيانًا
يُقَيِّضُ الله للإنسان ما يجعله يَدَعُ الشرَّ اقتداءً بغيره وتأسِّيًا به.
فهو
-رضي الله عنه- لما ذُكر له هذان الرجلان -وهما من خيار عباد الله من الذين
شَهِدوا بدرًا- فقال: (لي فيهما أسوة. فمَضَيتُ) أي: لم يرجع إلى النبي -عليه الصلاة
والسلام.
فأمر
النبي -عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يُكَلِّموهم.
فهجرهم
المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذُهلوا، وتنكَّرت لهم
الأرض فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلَّموا لا يُرَدُّ
عليهم السَّلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام. وحتى النبي -عليه الصلاة
والسلام- وهو أحسن الناس خلقًا -لا يُسَلِّم عليهم السلام العادي.
يقول كعب: كنتُ أحضرُ وأسَلِّم على النبي ﷺ فلا أدري: أحرَّك
شفتيه برد السلام أم لا.
هذا
وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- وما ظنك برجل يُهجَر في هذا المجتمع الإسلامي
الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض، وفعلًا ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا
ملجأ من الله إلا إليه، وبقُوا على هذه الحال مدَّةَ خمسين يومًا، أي: شهرًا
كاملًا وعشرين يومًا. والناس قد هجروهم فلا يسلِّمون عليهم. ولا يردون السلام إذا
سلَّموا. وكأنهم في الناس إبلٌ جربٌ لا يُقِرُبهم أحد.
فضاقت
عليهم الأمور وصعبت عليهم الأحوال، وفرُّوا إلى الله -عز وجل- ولكن مع ذلك لم يكن
كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.
فكان
يحضر ويسلِّم على النبي -عليه الصلاة والسلام- ولكن في آخر الأمر ربما يتخلَّف عن
الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجلُ أن يأتي إلى قوم يصلي معهم
وهم لا يُكلمونه أبدًا، لا بكلمة طيبةٍ ولا بكلمة تأنيب، فتركوهم بالكلية، فضاقت
عليهم الأرض، وبقوا على هذه الحالة خمسين ليلة تامة، ولما تمَّت لهم أربعون ليلة
أرسل إليهم النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يعتزلوا نسائهم. إلى هذا الحد، فرَّق
بينهم وبين نسائهم.
وما
ظنُّك برجل مثل كعب بن مالك وهو شاب يُعزَلُ عن امرأته؟ أمر عظيم، ولكن مع ذلك لما
جاءهم رسول الرسول –عليه الصلاة والسلام- وقال: (إن النبي ﷺ يأمرك أن تعتزل
امرأتك) قال: أطلقها أم ماذا؟ لأنه لو قال له طلِّقها لطلَّقَها بكل سهولة؛ طاعة
الله ورسوله، فسأل قال: أطلِّقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول -عليه
الصلاة والسلام- يأُمرك أن تعتزل أهلك. وبَقِي على ظاهر اللفظ. حتى الصحابي الذي
أُرسِلَ ما حرَّف النص، لا معنى ولا لفظًا، قال هكذا، قال: ولا أدري.
وهذا
من أدب الصحابة -رضي الله عنهم- ما قال: أظُنُّ أنه يريد أن تُطَلِّقها، ولا:
أظنُّ أنه يريد أن لا تطلِّقها! ما قال شيئًا، بل قال: إن النبي ﷺ قال هذا. فقال كعب
لزوجته الحقي بأهلك. فلحقت بأهلها.
(فأما صاحِبَاي فاستكانا في بيوتهما يبكيان) لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في
الأسواق، والناس قد هجروهم لا يلتفتُ إليهم أحد، ولا يسلِّم عليهم أحد، وإذا
سلَّموا لا يُرَدُ عليهم السلام، فعجزوا عن تحمُّلِ هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان.
يقول:
(وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجْلدَهم) أشبُّهم: أقواهم، وأجْلدَهم: أصبرهم. لأنه
أشبُّ منهم أصغر منهم سنًا، فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق
المدينة لا يكلمه أحد، لا يكلمه أحد؛ لأن النبي ﷺ أمر بهجرهم، وكان
الصحابة -رضي الله عنهم- أطوعَ الناس لرسول الله ﷺ.
يقول:
وكنت آتي المسجد فأصلي وأسلِّم على النبي ﷺ وهو جالس للناس بعد
الصلاة فأقول: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام أم لا.
أي:
ما يردُّ عليه ردًّا يُسمع، هذا مع أن النبي ﷺ أحسن الناس خُلُقًا،
ولكن امتثالًا لما أوحى الله إليه أن يُهجر هؤلاء القوم هَجَرهم.
ويقول:
كنت أُصلي وأُسارقُ النبي ﷺ
النظر، يعني: أنظر إليه أحيانًا وأنا أصلي، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ وإذا
التفتُّ إليه أعرض عني.
كل
هذا من شدة الهجر.
يقول:
فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة وطال عليَّ جفوة الناس، تسوَّرتُ حائطًا
لأبي قتادة -رضي الله عنه- تسوَّره: دخله من فوق الجدار من دون الباب، وكأن الباب
مُغلق. والعلم عند الله.
يقول:
فسلَّمت عليه، فو الله ما رد عليَّ السلام وهو ابن عمِّه وأحب الناس إليه، ومع ذلك
لم يردَّ عليه السلام، مع أن الرجل كان مجفيًّا من الناس منبوذًا، لا يُكلم ولا
يسلّم عليه ولا يُردُّ عليه السلام، ومع ذلك لم يعطف عليه ابن عمِّه أبو قتادة.
كل
هذا طاعة لله ورسوله؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- لا تأخذهم في الله لومة لائم
ولا يحابون أحدًا في دين الله ولو كان أقرب الناس إليهم، فقال له: أنشُدك الله، هل
تعلم أني أحبُّ الله ورسوله؟ فلم يرد عليه.
مرتين
يُناشده مناشدة هل يعلم أنه يحب الله ورسوله أم لا؟ وأبو قتادة يدري، ويعلم أن كعب
بن مالك يحب الله ورسوله.
فلما
ردَّ عليه الثالثة وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فقال:
الله ورسوله أعلم.
لم
يكلّمه، فلم يقل: نعم؟ ولا قال: لا. قال كلمة لا تعدُّ خطابا قال: الله ورسوله
أعلم.
يقول:
ففاضت عيناي، أي: بكى -رضي الله عنه- أن رجلًا -ابن عمه- أحب الناس إليه لا
يُكَلِّمه مع هذه المناشدة العظيمة.
مع
أنها أيضًا مسألة تعبُّديه، لأن قوله: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
طلبُ شهادة، ومع ذلك لم يشهد له، مع أنه يعلم أنه يحب الله ورسوله؛ ففاضت عيناه.
وتسوَّر البستان أي: خرج إلى السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نَبَطي من أنباط
الشام -والنبطيُّ الذي ليس بعربي ولا بعجمي، وسُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يخرجون في البراري
يستنبطون الماء- يقول: من يدُلُّني على كعب بن مالك!
انظر
إلى أهل الشر ينتهزون الفرص!
فعندما
قال: من يدلني على كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتبًا؛ لأن
الكُتَّاب في ذلك العهد قليلون جدًا.
يقول:
فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك –يعني: الرسول -عليه
الصلاة والسلام- وكان هذا الملك: ملك غسَّان كافرًا- وإنك لست بدار هوان ولا
مضيعة، يعني: لا تبقى في الدار في ذُلٍّ وضياع وهوان فتعال إلينا –الحق بنا
نُوَاسك- يعني: تعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا.
ولكن
الرجل رجل مؤمن بالله تعالى، ورسوله ومحب لله ورسوله ﷺ.
قال:
وهذه من البلاء، يعني: هذا من الامتحان. وصد -رضي الله عنه- رجل مجفوّ ٌلا
يُكَلَّم، مهجور منبوذ حتى من أقرب الناس إليه، لو كان في قلبه ضعف إيمان لانتهزَ
الفرصة بدعوةِ هذا الملك وذهب إليه، لكن عنده إيمانٌ راسخ.
يقول:
قلت: هذه من البلاء. ثم ذهب إلى التنُّور فسَجَرَهُ فيه: يعني: أوقدها بالتنور.
وإنما
أوقدها في التنور ولم يجعلها معه لئلا توسوسَ له نفسه بعد ذلك أن يذهب إلى هذا
الملك، فأتلفها حتى ييأس منها ولا يُحاول أن يجعلها حجَّة يذهب بها إلى هذا الملك.
ثم بقي على ذلك مُدّة.
ففي
هذه القطعة من الحديث: دليل على جواز التخلف عن الجماعة إذا كان الإنسان مهجورًا
منبوذا وعجزت نفسهُ أن تتحمَّل هذا كما فعل صاحبا كعب بن مالك -رضي الله عنهم.
لأنه
لا شك أنه من الضيق والحرج أن يأتي الإنسان إلى المسجد مع الجماعة لا يسلَّم عليه،
ولا يُردُّ سلامه، ومهجور ومنبوذ، هذا تضيق به نفسه ذرعًا ولا يستطيع، وهذا عذرٌ
كما قاله العلماء.
ومن فوائد هذا الحديث:
شدَّةُ
امتثال الصحابة لأمر النبي ﷺ
ودليل ذلك ما جَرَى لأبي قتادة -رضي الله عنه- مع كعب بن مالك -رضي الله عنه.
ومن
فوائد هذا الحديث: أنه يجب التحرز من أصحاب الشر وأهل السوء الذين ينتهزون الضعف
في الإنسان والفرص في إضاعته وهلاكه.
فإن
هذا الملكَ -ملكَ غسَّان- انتهز الفرصة في كعب بن مالك -رضي الله عنه- يدعوه إلى
الضلال لعله يرجع عن دينه إلى دين هذا الملك بسبب هذا الضيق.
ومن
فوائد الحديث: قوَّةُ كعب بن مالك -رضي الله عنه- في دين الله وأنه من المؤمنين
الخُلَّص، وليس ممن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ
النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: ١٠]، فبعض الناس-والعياذ
بالله- يقول: آمنا بالله، ولكن إيمانه ضعيف، إذا أوذيَ في الله ارتدَّ -والعياذ
بالله- وفسق وترك الطاعة، وكعب بن مالك -رضي الله عنه- أُوذِيَ في الله إيذاءً
أيما إيذاء، لكنه صَبَر واحتسب وانتظر الفرج، ففرَّج الله له تفريجًا لم يكن لأحد
غيره وصاحبيه، أنزل الله فيهم ثناءً عليهم آيات تتلى إلى يوم القيامة.
نحن
نقرأ قصتهم في القرآن في صلاتنا! وهذا فضل عظيم، قصَّتهم تُقرأ في الصلاة، في
الصلوات الخمس، في صلاة النافلة، سرًّا وعلنًا.
ومن
فوائد هذا الحديث أيضًا: أنه ينبغي للإنسان إذا رأى فتنة أو خوف فتنة أن يُتلِف
هذا الذي يكون سببًا لفتنته.
فإن
كعبًا لما خاف على نفسه أن تميل فيما بعد إلى هذا الملك ويتَّخذ هذه الورقة وثيقة،
حرقها -رضي الله عنه.
ومن
ذلك أيضًا: ما جرى لسليمان بن داود -عليهما الصلاة والسلام- حينما عُرضت عليه
الخيل الصَّافنات الجياد في وقت العصر، فغفل وذهلَ -بما عرض عليه- عن الصلاة حتى
غابت الشمس، فلما غابت الشمس وهو لم يصلِّ العصر دَعَا بهذه الخيل الصافنات الجياد
فجعل يضرب أعناقها وسوقها، يعني: جعل يقتلها ويعقرها انتقامًا من نفسه لنفسه؛ لأنه
انتقم من نفسه التي لَهتْ بهذه الصافنات الجياد عن ذكر الله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ
وَالْأَعْنَاقِ} [ص: ٣٢-٣٣]. فالمهمُّ أنك إذا رأيت شيئًا من
مالك يصدُّك عن ذكر الله فأبعِدهُ عنك بأي وسيلة تكون، حتى لا يكون سببًا لإلهائك
عن ذكر الله.
فإن
الذي يُلهي عن ذكر الله خسارة، كما قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
[المنافقون: ٩].
يقول -رضي الله عنه-: فلما تمت لنا أربعون ليلة يعني: شهر وعشرة أيام، وكان الوحي
قد استلبث فلم ينزل كل هذه المدة، وهذه من حكمة الله -عز وجل- في الأمور الكبيرة
العظيمة، يَسْتَلْبث الوحي ولا ينزل، كما في هذه القصة، وكما في قصة الإفك حين
انقطع الوحي عن رسول الله ﷺ.
وهذا
من حكمة الله -عز وجل- حتى يتشوَّف الناس إلى الوحي ويتشوفوا إليه: ماذا سيُنزل رب
العالمين -عز وجل؟ فبقي الوحي أربعين ليلة ما نزل، فلما تمت أربعون ليلة أرسل
النبي ﷺ
إلى كعب وصاحبيه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع -رضي الله عنهم- أن يعتزلوا
نساءهم.
وجاءت
زوجةُ هلال بن أمية إلى رسول الله ﷺ وأخبرته بأنه في حاجة
إليها لتَخدمه؛ لأنه ليس له خادم، فأذن لها النبي ﷺ بشرط أن لا يقربها،
فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء يعني: أنه ليس له شهوة في النساء، وأنه ما
زال يبكي-رضي الله عنه- منذ أمر النبي ﷺ بهجرهم إلى يومه هذا،
أربعون يومًا يبكي؛ لأنه ما يدري ماذا تكون النهاية.
يقول -رضي الله عنه-: فلما مضى عشر ليال بعد هذا، وكنت ذات يوم أصلي الصبح على سطح
بيت من بيوتنا لأنه كما مرَّ كانوا -رضي الله عنهم- قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت،
وضاقت عليهم أنفسهم، واستنكروا الناس، يأتون إلى المسجد لا يكلمهم أحد، وإن
سلَّموا لم يردَّ عليهم، وإن مرَّ بهم أحد لم يسلِّمْ عليهم، ضاقت عليهم الأرض.
فصار ذات يوم يصلي الصبح في بيته على سطحه. يقول: فسمعت صارخًا يقول وهو على سلْعٍ
-وهو جبل معروف في المدينة- أوفى عليه وصاح بأعلى صوته يقول: يا كعب بن مالك أبشر
يا كعب بن مالك أبشر!
يقول:
فخررت ساجدًا، وعرفت أنه قد جاء فرج وركب فارس من المسجد يؤم كعب بن مالك
ليُبَشِّره، وذهب مُبَشِّرون إلى هلال بن أمية ومرارة بن الربيع يُبَشِّرونها
بتوبة الله عليهما. فانظر إلى فرح المسلمين بعضهم مع بعض، كل يذهبُ يسعى ويركضُ من
جهة.
يقول:
فجاء الصَّارخ، وجاء صاحب الفرس، فكانت البُشرى للصارخ؛ لأن الصَّوت أسرعُ من
الفرس، يقول: فأعطيته ثَوْبَيَّ الإزارَ والرِّداء، وليس يملك غيرهما، لكن استعار
من أهله أو من جيرانه ثوبين فلبسهما، وأعطى ثوبيه هذا الذي بَشَّره.
أعطاه
كل ما يملك، لا يملك غير الثوبين. لكنها والله بُشْرى عظيمة، بشرى من الله سبحانه
وتعالى، عظيمة، أن ينزل الله توبتهم ويَمُنَّ عليهم بالتوبة.
ثم
نزل متوجهًا إلى الرسول ﷺ
في المسجد، وإذا رسول الله ﷺ
-وجزاه الله عن أمته خيرًا- قد بشَّر الناس بعد صلاة الصبح بأن الله أنزل توبته
على هؤلاء الثلاثة؛ لأنه يُحِبُ من أصحابه وأمته أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله.
يقول:
فذهبت أتأمَّمُ رسول الله ﷺ
يعني: أقصده، فجعل الناس يُلاقونني أفواجًا، يعني: جماعات، يهنِّئونه بتوبة الله
عليه -رضي الله عنه.
هؤلاء
القوم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، فلم يحسدوهم على ما أنعم الله به عليهم من
إنزال القرآن العظيم بتوبتهم، بل جعلوا يهنِّئونهم حتى دخل المسجد.
وفي هذه القطعة من الحديث فوائد:
أولًا:
شدَّةُ هجر النبي -عليه الصلاة والسلام- لهؤلاء الثلاثة، حتى إنه أمرهم أن يعتزلوا
نساءهم، والتفريق بين الرجل وامرأته أمره عظيم.
ثانيًا:
وفيه أن قول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك؛ ليس بطلاق، لأن كعب بن مالك -رضي الله
عنه- فرَّق بين قوله: الحقي بأهلك، وبين الطلاق، فإذا قال الرجل لامرأته الحقي
بأهلك ولم ينوِ الطلاق، فليس بطلاق.
أما
إذا نوى الطلاق فإن النبي ﷺ
قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نوى».
فإذا
نوى الإنسان بهذه الكلمة وأمثالها الطلاق فله ما نوى.
ثالثًا:
شدَّةُ امتثال الصحابة -رضي الله عنهم- لأمر النبي ﷺ؛ لأنه -رضي الله عنه-
ما تردد، ولا قال: لعلي أراجعُ الرسول -عليه الصلاة والسلام- أو قال للرسول الذي
أرسله النبي ﷺ:
ارجع إليه لعله يسمح، بل وافق بكل شيء.
رابعًا:
أن النبي ﷺ
كان رحيما بأمته، فإنه بعد أن أمرهم باعتزال النساء رخَّص لهلال بن أمية، لأنه
يحتاج لخدمة امرأته.
خامسًا:
جواز حكاية الحال عند الاستفتاء أو الشهادة أو ما أشبه ذلك، وإن كان المحكيُّ عنه
قد لا يحبُّ أن يطلع عليه الناس، لأن امرأة هلال بن أمية ذكرت من حَالِه أنه ليس
فيه حاجة إلى شيء من النساء.
سادسًا:
أن الإنسان إذا حَصلَ له مثل هذه الحال وهجرَهُ الناس، وصار يتأذَّى من مشاهدتهم
ولا يتحمَّل، فإنه له أن يتخلف عن صلاة الجماعة، وإن هذا عذر؛ لأنه إذا جاء إلى
المسجد في هذه الحال سوف يكون مُتَشوِّشًا غير مطمئن في صلاته؛ ولهذا صلّى كعب بن
مالك -رضي الله عنه- صلاة الفجر على ظهر بيت من بيوته، وسبق لنا ذكرُ هذه الفائدة
في قصة هلال بن أمية ومرارة بن الربيع.
سابعًا:
حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على التسابق إلى البُشرى؛ لأن البشرى فيها إدخال
السرور على المسلم. وإدخال السرور على المسلم مما يقرِّب إلى الله -عز وجل- لأنه
إحسان والله -سبحانه وتعالى- يحب المحسنين ولا يُضيعُ أجرهم.
فلذلك
ينبغي لك إذا رأيت من أخيك شيئا يَسَّرَهُ، كأن يكون خبرًا سارًا أو رؤيا سارَّة
أو ما أشبه ذلك، أن تبشره بذلك، لأنك تدخل السرور عليه.
ثامنًا:
أنه ينبغي مُكافأةُ من بشَّرك بهديَّةٍ تكون مناسبة للحال، لأن كعب بن مالك -رضي
الله عنه- أعطى الذي بشَّره ثوبيه، وهذا نظير ما صح به الخبر عن عبد الله بن عباس
-رضي الله عنهما- وكان يأمر الناس إذا حجوا أن يتمتَّعوا بالعمرة إلى الحج، يعني:
أن يأتوا بالعمرة ويحلُّوا منها ثم يُحرموا بالحج في يوم التروية، وكان عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- ينهى عن المتعة؛ لأنه يحب أن يعتمر الناس في وقت، وأن يحجوا
في وقت، حتى يكون البيت دائمًا معمورًا بالزُّوَّار، ما بين معتمرين وحجاج، فعل
هذا اجتهادًا منه -رضي الله عنه- وهو من الاجتهاد المغفور، وإلا فلا شكَّ أن سنة
الرسول -عليه الصلاة والسلام- أولى.
المهمُّ
أن رجلًا استفتى عبد الله بن عباس في هذه المسألة، فأمره أن يتمتَّع وأن يُحرم
بالعمرة ويُحل منها.
فرأى
هذا الرجل في المنام شخصا يقول له: حج مبرور وعمرة متقبَّله، فأخبر بذلك عبد الله
بن عباس الذي أفتاه، ففرح بذاك ابن عباس وأمره أن يبقى حتى يُعطيه من عطائه، يعني:
يُعطيه هديَّةً على ما بشَّرَه به من هذه الرؤيا التي تدل على صواب ما أفتاه به
عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما.
والمهمُّ
أن من بشَّرك بشيء فأقلُّ الأحوال أن تدعو له بالبشارة، أو تُهْدي له ما تيسر، وكل
إنسان بقدر حاله.
يقول -رضي الله عنه-: حتى دخلت المسجد وإذا رسول الله ﷺ جالس وحوله أصحابه،
فقام إلى كعبٍ طلحةُ بن عبيد الله -رضي الله عنه- فصافحه وهنَّأه بتوبة الله عليه.
يقول:
والله ما قام إليَّ أحد من المهاجرين رجل غيرُ طلحة، فكان لا ينساها له، حيث قام
ولاقاه وصافَحه وهنَّأه، حتى وقف على النبي ﷺ وإذا وجههُ تبرقُ
أسَاريره؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- سرَّه أن يتوب الله على هؤلاء الثلاثة الذين
صَدَقوا الله ورسوله، وأخبروا بالصِّدق عن إيمان، وحَصَل عليهم ما جرى من الأمر
العظيم، من هجر الناس لهم خمسين يومًا، حتى نسائهم بعد الأربعين أمر الرسول -عليه
الصلاة والسلام- أن يعتزلوهنّ.
ثم
قال له النبي ﷺ:
«أبشر بخيرِ يومٍ مرَّ عليك مُذ ولدتكَ أمُّك».
وصدق
النبي ﷺ
خيرُ يوم مرَّ على كعب منذ ولدته أمه هو ذلك اليوم، لأن الله أنزل توبته عليه وعلى
صاحبيه في قرآن يُتْلي، تكلَّم به ربُّ العالمين -عز وجل- وأنزله على محمد ﷺ محفوظًا بواسطة جبريل،
ومحفوظًا إلى يوم القيامة، ولا يوجد أحد سوى الأنبياء أو من ذَكَرَهم الله في
القرآن حُفظت قصته كما حفظت قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم.
بقيت
هذه القصة تُتْلي في كتاب في المحاريب وعلى المنابر وفي كل مكان، ومن قرأ هذه
القصة فله بكل حرف عشرُ حسنات، فهذا اليوم لا شك أنه خيرُ يومٍ مرَّ على كعب منذ
ولدته أمه. فقلتُ له: أمِنْ عندك يا رسول الله أومن عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله عز وجل» لأنه إذا كان من عند
الله كان أشرف وأفضل وأعظم. فقال كعب: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله
وإلى رسوله، أي: يتخلى عنه ويجعله صدقة إلى الله ورسوله شأنه وتدبيره. فقال النبي ﷺ: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» فأمسكه --رضي الله
عنه.
ففي هذه القطعة من الحديث فوائد:
أولًا:
فيها دليل على أن من السنة إذا أتى الإنسان ما يَسُرُّهُ أن يهنأ به ويُبشَّرَ به،
سواء كان خير دين أو خير دنيا.
ولهذا
بشَّرت الملائكة إبراهيم عليه السلام بغلام حليم وبغلام عليم، الغلام الحليم:
إسماعيل. والغلام العليم: إسحاق. بشَّرت الملائكة إبراهيم بهزين الغلامين.
ثانيًا:
إنه لا بأس بالقيام إلى الرجل لمصافحته وتهنئته بما يسُرُّه.
والقيام
إلى الرجل لا بأس به قد جاءت به السنة، وكذلك القيام للرجل وأنت باقٍ في مكانك لا
تتحرَّك إليه، فهذا أيضًا لا بأس به إذا اعتاده الناس، لأنه لم يرد النهي عنه؛
وإنما النهي والتحذير من الذي يقام له لا من القائم، فإن من يقام له قال فيه النبي
-عليه الصلاة والسلام-: «من أحب أن يتمثل له الرجال
قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار».
قال
أهل العلم: والقيام ثلاثة أقسام:
الأول:
قيام إلى الرجل.
الثاني:
قيام للرجل.
والثالث:
قيام على الرجل.
فالقيام
إلى الرجل: لا بأس به، وقد جاءت به السنة أمرًا وإقرارًا وفعلًا أيضًا.
أما
الأمر: فإن النبي ﷺ
لما أقبل سعد بن معاذ -رضي الله عنه- عند تحكيمه في بني قريظة، قال النبي -عليه
الصلاة والسلام-: «قوموا إلى سيدكم» وكان سعد بن معاذ -رضي الله عنه- قد أصيب في
غزوة الأحزاب في أكحله، والأكحل عرقٌ في الإبهام إذا انفجر مات الإنسان، أصيب به
-رضي الله عنه- فدعا الله أن لا يُميته حتى يقر عينه في بني قريظة، وكانوا حُلفاء
للأوس، وخانوا عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- وصاروا مع الأحزاب على رسول الله ﷺ. فلما طُعنَ سعد قال:
اللهم لا تُمتني حتى تقر عيني ببني قريظة، وكان من عُلُوِّ منزلته عند رسول الله ﷺ أن أمر النبي ﷺ أن يُضربَ له خباء في
المسجد -أي: خيمة صغيرة- لأجل أن يعوده من قريب فكان يعوده من قريب.
ولما حصلت غزوة بني قريظة ورضوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، أمر النبي ﷺ أن يحضر سعد إلى بني
قريظة، فجاء راكبا على حمار؛ لأنه قد أنهكه الجرح، فلما أقبل قال النبي -عليه
الصلاة والسلام-: «قوموا إلى سيدكم» فقاموا
فأنزلوه، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- له: إن هؤلاء -يعني: اليهود- من بني
قريظة حكَّموك. فقال -رضي الله عنه-: حكمي نافذٌ فيهم؟
قال
نعم! وأقَرُّوا هم به، وقالوا: نعم حكمك نافذ، قال: وفيمن ها هنا يشير إلى الرسول
-عليه الصلاة والسلام- والصحابة قالوا: نعم، فقال: أحكُم فيهم أن تقتل مقاتلهم،
وتسبى ذريتهم ونساؤهم، وتغنم أموالهم، حكم صارم، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-:
«لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات»
رضي الله عنه.
فنفَّذ
النبي ﷺ
حكمه، وقتل منهم سبعمائة رجل، وسبى نساءهم وذرياتهم، وغنم أموالهم.
الشاهد
قوله: «قوموا إلى سيدكم» هذا فعل أمر، ولما
دخل كعب ابن مالك المسجد قام إليه طلحة بن عبيد الله والنبي ﷺ يشاهد ولم ينكر عليه.
ولما
قدم وفد ثقيف إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالجعرانةِ بعد الغزوة قام لهم -أو
قام إليهم- عليه الصلاة والسلام، فالقيام إلى الرجل لا بأس به.
الثاني:
القيام للرجل: وهذا أيضا لا بأس به، لا سّيما إذا اعتاد الناس ذلك وصار الداخل إذا
لم تقم له يعد ذلك امتهانًا له، فإن ذلك لا بأس به، وإن كان الأولى تركه كما في
السنة، لكن إذا عتاده الناس فلا حرج فيه.
الثالث:
القيام عليه: كأن يكون جالسًا، ويقوم واحد على رأسه تعظيما له، فهذا منهي عنه.
قال
النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا تقوموا كما تقوم
الأعاجم يُعظِّم بعضهم بعضا».
حتى
إنه في الصلاة إذا صار الإمام لا يستطيع القيام وصلى جالسا فإن المأمومين يصلُّون
جلوسا، ولو كانوا يقدرون على القيام، لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون على
ملوكهم.
فالقيام
على الرجل منهي عنه، اللهم إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كأن يخاف على الرجل أن
يعتدي عليه أحد فلا بأس أن يقوم عليه القائم، وكذلك إذا قام عليه الرجل إكرامًا له
في حال يقصد إكرامه وإهانة العدو، مثل ما حصل من المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-
في صلح الحديبية حينما كانت قريش تراسل النبي ﷺ للمفاوضة فيما بينهم،
كان المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- واقفا على رأس رسول الله وبيده السيف تعظيمًا
لرسول الله ﷺ
وإهانة لرسل الكفار الذين يأتون للمفاوضة.
وفي هذا دليل على أنه ينبغي لنا -نحن المسلمين- أن نغيظ الكفار بالقول وبالفعل،
لأنّا هكذا أمرنا، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}
[التوبة: ٧٣]،
وقال الله تعالى: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ
الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ
عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: ٢٠]، ومن المؤسف
أن منّا من يُدخل عليهم السرور والفرح، وربما يشاركهم في أعيادهم الكفرية التي لا
يعرضاها الله بل يسخط عليها، والتي يخشى أن ينزل العذاب عليهم وهم يلعبون بهذه
الأعياد. يوجد من الناس -والعياذ بالله- من لا قَدْر للدين عنده، كما قال ابن
القيم -رحمه الله- في كتابه أحكام أهل الذمة: من ليس عنده قدر للدين يشاركهم في
الأعياد ويهنئهم. وكيف يدخل السرور على أعداء الله وأعدائك؟ أدخل عليهم ما يحزنهم
ويغيظهم ويدخل عليهم أشد ما يكون من الضيق، هكذا أمرنا؛ لأنهم أعداء لنا وأعداء
لله ولدينه وللملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
المهم
أن المغيرة بن شعبة وقف على رأس رسول الله ﷺ وبيده السيف تعظيمًا
له حتى إنه في أثناء تلك المراسلة فعل الصحابة شيئا لا يفعلونه في العادة، كان
-عليه الصلاة والسلام- إذا تنخّم تلقَّوا نُخامته بأيديهم بالراحة، ثم يمسحون بها
وجوههم وصدوره مع إنهم ما كانوا يفعلون هذا، لكن لأجل إذا ذهب رسول الكفار بيَّن
لهم حال الصحابة -رضي الله عنهم- مع نبيهم -عليه الصلاة والسلام.
ولذلك لما رجع رسول قريش إلى قريش قال: والله لقد دخلت على الملوك وكسرى وقيصر
والنجاشي فلم أرَ أحدًا يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمدًا -رضي الله عنهم
وأرضاهم- وجزاهم الله عنا خيرًا.
المهم
أن القيام على الرجل إذا كان المقصود به حفظ الرجل، أو كان المقصود به إغاظة
العدو، فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه وإلا فهو منهي عنه.
ثالثًا: أن من أنعم الله عليه بنعمة فإن من السنة أن يتصَّدق بشيء من ماله، فإن
النبي ﷺ
أقرَّ كعب بن مالك على أن يتصدق بشيء من ماله توبة إلى الله -عز وجل- لما حصل له
من الأمر العظيم الذي كان فخرًا له إلى يوم القيامة.
ثم
ذكر كعب بن مالك أن من توبته أن لا يحدث بحديث كذب بعد إذ نجاه الله تعالى، بالصدق
ومازال كذلك ما حدَّث بحديث كذب أبدًا بعد أن تاب الله عليه، فكان -رضي الله عنه-
مَضرَبَ المثل في الصدق، حتى إن الله أنزل فيه وفي صاحبيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا
مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: ١١٩]، أنزل الله
تعالى، الآيات في بيان منَّتِه عليهم بالتوبة من قوله تعالي: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا
كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: ١١٧]، ففي هذه
الآية أكَّدَ الله سبحانه وتعالى، توبته على النبي والمهاجرين والأنصار، أكدها
بقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّه}.
فأما
النبي فهو محمد رسول الله ﷺ
خاتم النبيين الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما المهاجرون فهم
الذين هاجروا من بلادهم من مكة إلى المدينة، هاجروا إلى الله، فجمعوا في ذلك بين
الهجرة ومفارقة الوطن ومفارقة الديار وبين نُصرة النبي ﷺ؛ لأنهم إنما هاجروا
إلى الله ورسوله، فالمهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة.
أما
الأنصار فهم الذين تبوَّأوا الدار والإيمان من قبلهم، أهل المدينة -رضي الله عنهم-
الذين آوَوا النبي ﷺ
ونصروه ومنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم. وقدَّم الله المهاجرين لأنهم أفضل
من الأنصار، لجمعهم بين الهجرة والنصرة.
وقوله:
{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}
وذلك في الخروج معه إلى غزوة تبوك، إلى بلاد بعيدة، والناس في أشد ما يكونون من
الحر، والناس في أطيب ما يكونون لو بقوا في ديارهم، لأن الوقت وقت قيظ، والوقت وقت
طيب الثمار وحسن الظلال، ولكنهم -رضي الله عنهم- خرجوا في هذه الساعة الحَرِجَة في
ساعة العسرة: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ} فإن بعضهم كاد أن يتخلف دون عذر فيزيغ قلبه، ولكن الله -عز
وجل- مَنَّ عليهم بالاستقامة حتى خرجوا مع النبي ﷺ.
وقوله:
{ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ} أكد ذلك مرَّة أخرى {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} شملهم بالرأفة
والرحمة، والرأفة أرق من الرحمة؛ لأنها رحمة الطف وأعظم من الرحمة العامة.
ثم قال: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}.
والثلاثة:
هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، هؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا
-رضي الله عنهم- وخُلِّفوا أي: خُلِّفَ البتُّ في أمرهم، وليس المراد تخلَّفوا عن
الغزوة، بل خلفهم الرسول -عليه الصلاة والسلام- لكي ينظر في أمرهم ماذا يكون حكم
الله تعالى، فيهم.
وقوله:
{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا
رَحُبَتْ} ضاقت عليهم الأرض مع سعتها، والرَّحْبُ هو السَّعة، والمعنى: أن
الأرض على سعتها ضاقت بهم. حتى قال كعب بن مالك: لقد تنكرت لي الأرض حتى قلت: لا
أدري، هل أنا في المدينة أو غيرها من شدة الضيق عليهم -رضي الله عنهم.
{وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُم} نفس الإنسان ضاقت عليه فهي لا تتحمَّل أن تبقى ولكنهم
صبروا -رضي الله عنهم- حتى فرَّجَ الله عليهم.
وقوله:
{وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ
إِلَيْه} [التوبة: ١١٨]،
الظن هنا بمعنى اليقين أي: أيقنوا أنه لا ملجأ من الله، أي: أنه لا أحد ينفعهم،
ولا ملجأ من الله إلا إلى الله، فالله بيده كل شيء -عز وجل.
وقوله:
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تاب عليهم لينالوا مراتب التوبة التي لا
ينالها إلا من وُفِّق، لا ينالها إلا أحباب الله، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: ٢٢٢].
أما
أولئك الذين اعتذروا من المنافقين إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- واستغفر لهم
ووَكَّلَ سرائرهم إلى الله، فإن الله أنزل فيهم شرَّ ما أنزل في بشر فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا أنْقَلَبْتُمْ
إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} فلا تلومونهم {فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْس} نعوذ بالله رجس، الخمر رجس، القذر الذي يخرج من
دبر الإنسان رجس، روث الحمير رجس، هؤلاء مثلهم. {وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: ٩٥]، بئس المأوى
-والعياذ بالله- إنهم ينتقلون من الدنيا إلى جهنم، نسأل الله العافية، نار حامية
تطَّلع على الأفئدة، مؤصدة عليهم في عَمَدٍ ممدَّدة.
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} لأنكم لا
تعلمون سرائرهم ولا يبدو لكم إلا الظواهر {فَإِنْ
تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}
لو رضي الناس عنك كلهم والله لم يرض عنك فإنه لا ينفعك إلا رضا الله -عز وجل- لأن
الله إذا رضي عنك أرضى عنك الناس وأمَالَ قلوبهم إليك، كما جاء في الحديث: «إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا
فأحبه» يُعيَّن الله الرجل له فيحبه جبريل، «ثم
ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم
يوضع له القبول في الأرض» فيكون مقبولًا لدى أهل الأرض.
كما قال الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: ٩٦].
لكن
إذا التمس الإنسان رضا الناس بسخط الله فالأمر بالعكس، يسخط الله عليه ويسخط عليه
الناس.
ولهذا
لما تولَّى معاوية -رضي الله عنه- الخلافة كتبت له عائشة -رضي الله عنها- قالت:
سمعت النبي ﷺ
يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة
الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكَلَهُ الله إلى الناس» وما أكثر
الذين يطلبون رضا الناس بسخط الخالق عز وجل -والعياذ بالله.
هؤلاء
هم في سَخَطِ الله ولو رضي عنهم الناس، فلا ينفعهم رضا الناس قال الله تعالى، هنا:
{فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا
يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: ٩٦]، حتى لو رضي
عنهم النبي ﷺ
-أشرف الخلق- ما نفعهم؛ لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
وفي
هذه الآية تحذير من الفسق، وهو ارتكاب المعاصي التي أعظمها الكفر، وكل فسق فإنه
ينقص من رضا الله عن الإنسان بحسبه، لأن الحكم المعلق بالوصف يزداد بزيادته وينقص
بنقصانه، ويقوي بقوَّته ويضعف بضعفه. والفسق سبب من أسباب عدم رضا الله {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} والفسق أنواع كثيرة ومراتب عظيمة. فعقوق الوالدين
من الفسوق، وقطيعة الرحم من الفسوق، وغشُّ الناس من الفسوق، والغدر بالعهد من
الفسوق، والكذب من الفسوق، فكل معصية من الفسوق.
لكن
صغائر الذنوب تكفرها حسنات الأعمال إذا أصلح الإنسان الحسنات، كما قال الله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}
[الإسراء: ٧٨].
وقال
عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ} [هود: ١١٤]، فإذا فعل الإنسان حسنة أذهبت
السيئة إذا كانت صغيرة، أما الكبائر فلا ينفع فيها إلا التوبة.
على
كل حال: الفسق من أسباب انتفاء رضا الله عن العبد، والطاعة من أسباب الرضا، فالتزم
طاعة الله إن كنت تريد رضاه، وإن كنت تريد رضا الناس فأرضِ الله، إذا رضيَ الله
عنك كفاك مؤنة الناس وأرضى الناس عنك، وإن أسخطت الله برضا الناس فأبشر بسخط الناس
مع سخط الله، والعياذ بالله.
وذكر -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ
خرج من المدينة في يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج في يوم الخميس، ولكن ذلك ليس
بدائم، أحيانًا يخرج يوم السبت، كما خرج في آخر سفرةٍ سافرها في حجة الوداع، وربما
يخرج في أيام أُخر، لكن غالب ما يخرج فيه هو يوم الخميس.
وذكر
أن النبي ﷺ
عاد إلى المدينة ضُحًَى، وأنه دخل المسجد فصلَّى فيه ركعتين، وكان هذا من سنته ﷺ أنه إذا قدم بلده لم
يبدأ بشيء قبل المسجد. وهاتان الركعتان تشمل كل الوقت، حتى أوقات النهي؛ لأنها
صلاة سببيَّة، فليس عنها نهي، في أي وقت وجد سببها حل فعلها.
فينبغي
إذا قدم الإنسان إلى بلده أن يبدأ قبل كل شيء بالمسجد. وقد تقدم ذكرُ ذلك.
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
مواضيع ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق