باب تعظيم
حُرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح الحديث النبوي الشريف/ المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله
أحاديث رياض الصالحين: باب تعظيم
حُرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم
٢٣٩ - وعن أَبي هريرةَ
-رَضِّيَّ
اللهُ عَنْهُ-
قَالَ:
قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: «المُسْلِمُ
أَخُو الْمُسْلِم، لا يخُونُه، وَلا يُكَذِّبهُ، وَلا يخْذُلُهُ، كُلُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرامٌ: عِرْضُهُ، ومالُه، ودمُهُ، التَّقْوَى
هَاهُنا، بِحسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخاهُ
المُسْلِم» رواه الترمذيُّ وَقالَ: حديثٌ حسنٌ [١].
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله تعالى، فيما
نقله عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ
قال: «المسلم أخو المسلم» وقد تقدم الكلام على
هذه الجملة. وإن هذه الأخوة أخوة الإيمان، وأنها أقوى رابطة وأوثق من أخوة النسب،
وبينا وجه ذلك فيما سبق.
وبين هنا في هذا الحديث أنه: «لا يظلمه ولا يخونه ولا
يكذبه» لا يخونه يعني: لا يغدر به في محل الائتمان، إذا ائتمنه على شيء، أو
على مال، أو على سر، أو على غير ذلك فإنه لا يخونه، والخيانة هي الغدر بالشخص في
موضع الائتمان، ولا يجوز لأحد أن يخون أخاه المسلم حتى وإن خانه.
يعني:
وإن خانك أخوك المسلم فلا تخنه، لقول النبي ﷺ:
«أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»
[٢] فلو فرضنا أن شخصاً خانك في مال؛ بأن أقرضته مالاً، أي: سلفته، ثم أنكر بعد
ذلك وقال: لم تقرضني شيئاً؛ فإنه لا يحل لكل أن تخونه فتقترض منه ثم تنكره، بل أد
إليه أمانته وأسأل الله الحق الذي لك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تخن من خانك».
كذلك أيضاً: «لا يكذبه» أي: لا يحدثه بكذب،
والكذب حرام، وكلما كان آثاره أسوأ كان أشد إثماً. وليس في الكذب شيء حلالاً، وأما
من ادعاه بعض العامة حيث يقولون: إن الكذب نوعان: أسود وأبيض، فالحرم هو الأسود،
والحلال هو الأبيض، فجوابه: إن الكذب كله أسود، ليس فيه شيء أبيض، لكن يتضاعف إثمه
بحس ما يترتب عليه، فإذا كان يترتب عليه أكل مال المسلم، أو غررٌ على مسلم، صار أشد
إثماً، وإذا كان لا يترتب عليه أي شيء من الأضرار، فإنه أخف ولكنه حرام.
لكن
ورد عن النبي ﷺ: "إنه رخص في الكذب عند
الإصلاح بين الناس وفي الحرب، وفي حديث الرجل امرأته. وحديثها إياه"[٣].
لكن كثيراً من العلماء قال: إن المراد بالكذب في هذا الحديث ليس الكذب الصريح،
وإنما هو التورية، والتورية تسمى كذباً، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين
يأتي الناس له يوم القيامة ليشفع لهم: إنه كذب ثلاث كذبات [٤]، وهو لم يكذب ولكنه
ورى تورية، يعني: أظهر للمخاطب شيئاً غير الذي يريده هو، فبعض العلماء يقول: إن
هذا الحديث الذي فيه أن الكذب يجوز في هذه الأشياء الثلاثة، يراد به كذب التورية
لا الكذب الصريح، وعلى هذا فلا يستثنى من الكذب شيء، وكل الكذب حرام، ثم
أعلم الكذب يحار فيه الإنسان ويعجز عنه معالجته كما قيل:
لي حيلة في من ينمُّ وليس في الكذاب حيلة
من
كان يخلق ما يقولُ فحيلتي فيه قليله
الذي ينمُّ والذي يلقي النميمة بين الناس، لي فيه حيلة أي: يمكن أن
احتال واتخلص منه ومن شره، لكن الذي يكذب يقول فعلت وفعلت وهو كاذب. ليس
في فيه حيلة إذا كان يخلق ما يقول وما شاء قاله، فهذا مشكل ليس لي فيه حيلة، ولهذا
قال هنا: "ولا يكذبه".
وفي لفظ: «ولا يحقره» يعني: لا يحتقره ولا
يستصغره، حتى وإن كان أكبر منه سناً، وإن كان أكثر منه مالاً، وإن كان
أغزر منه عالماً فلا يحقره.
واحتقار الناس من الكبر -والعياذ بالله- قال النبي ﷺ:
«الكبر بطر الحق، وغمط الناس» [٥]،
بطر الحق يعني: ردّه، وغمط الناس يعني: احتقارهم وازدراءهم فالمسلم يرى
أخاه بعين الإكبار ويحترمه ويعظمه، والعامة يقولون: احترام الناس يحترمونك، يعني:
من راي الناي يعني: الاحتقار رأوه بعين الاحتقار ظن ومن رآهم بين
الإكثار والإجلال، رأوه بعين الإجلال، وهذا شيء مشاهد.
ولهذا تجد الرجل المتواضع اللين الهين محترماً عند الناس كلهم، لا أحد يكرهه، ولا
أحد يسبه والإنسان الشامخ بأنفه المستكبر المحتقر لغيره، تجده مكروهاً مذموماً عند
الناس، ولولا حاجة الناس إليه إذا كانوا يحتاجون عليه ما كلمه أحد؛ لأنهم يحتقرونه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: «التقوى ها هنا»
أشار إلى صدره ثلاث مرات، يعني: أن التقوى في القلب فإذا اتقى القلب؛ أتقت
الجوارح، وهذا كقوله ﷺ: «ألا
وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا
فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ» [٦] فإذا كان في قلب
الإنسان تقوى لله عزّ وجلّ، وخوفٌ منه وخشيه له، استقامت أعماله الظاهرة؛ لأن
الأعمال الظاهرة تتبع القلب.
وقد مثل بعض العلماء ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه، بالقلب بالملك المطاع مع
جنوده، فالملك المطاع مع جنوده إذا أمرهم بشيء أطاعوه، ولكن بعض العلماء قال: إن
هذا المثال أنقص من قول النبي ﷺ: «إذا
صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ» وذلك؛ لأن الملك مع جنوده وإن كان
مطاعاً فإنهم لا يصلحون بصلاحه، لكن القلب إذا صلح صلح صلح الجسد، وإذا
اتقي اتقى الجسد.
واعلم أن من الناس من يجادل بالباطل بهذا الحديث، فإذا أمرته بمعروف، أو نهيته عن
منكر، قال، التقوى هاهنا تقول له: لا تحلق لحيتك فحلق اللحية حرام، وحلق اللحية من
طريقة المجوس والمشركين، وإعفاء اللحية من هدي النبيين والمرسلين وأولياء الله
الصالحين. إذا قلت له هذا قال: التقوى هاهنا. التقوى ها هنا. نقول له: كذبت وإنه
ليس في قلبك تقوى، لو كان في قلبك تقوى لاتقيت الله؛ لأن القلب إذا اتقى اتقت
الجوارح، وإذا انهمك في معصية الله انهمكت الجوارح.
وفي قوله: «التقوى ها هنا» وإشارته على صدره
دليلٌ على أن العقل في القلب الذي في الصدر، وهذا هو المطابق للقرآن تماماً، قال
الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ} [الحج: ٤٦]، فقال: {قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا}، ثم قال: {وَلَكِنْ
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وليس القلب هو المخ كما يظنه بعض الجهال، فالعقل في القلب. ولكن المخ لا شك أن له
اثراً في أعمال العبد، في حركاته، وفي سكناته، لكنهم قالوا: إن المخ مثل الخادم،
يهيئ الأشياء ويطبخها، ثم يبعث بها إلي القلب، ثم يصدر القلب الأوامر على المخ من
اجل أن المخ يدبر الأعصاب وبقية الجسم، فيكون هذا المخ خادماً للقلب عند تصدير
الأشياء إليه واستصدارها منه فالأشياء تمر من القلب ذاهبة وآتيه إلى المخ، والمخ
هو الذي يحرك البدن، ولذلك إذا اختل المخ اختل كل شيء.
ثم قال ﷺ: «بحسب
امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» يعني: لو لم يكن من الشر للمسلم إلا أن
يحقر أخاه ويستصغره ويستذله، لكان كافياً في الإثم والعياذ بالله، في هذا التحليل
أعظم زاجر من احتقار أخيك المسلم، وأن الواجب عليك أن تحترمه وتعظم بما فيه من
الإسلام والإيمان.
ثم قال ﷺ: «كل
المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه»: "كل المسلم على المسلم
حرام، دمه" فلا يعتدي على المسلم بقتل أو جرح أو غير ذلك
"وماله" فلا يؤخذ ماله، ولا غصباً، ولا سرقة، ولا خيانة، ولا دعوى ما
ليس له، ولا غير ذلك بأي طريق، فلا يحل لك أن تأخذ مال أخيك بغير حق فإنه حرامٌ عليك.
«وعرضه» بأن لا تنتهك عرضه، وتتكلم فيه بين
الناس، سواء كنت صادقاً فيما تقول أو كاذباً؛ لأن النبي ﷺ
لما سئل عن الغيبة فقال: «ذكرك أخاك بما يكره»
قالوا: يا رسول الله، أريت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن
كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» [٧] فالواجب
على المسلم أن يحترم أخاه في ماله وعرضه ودمه كما قال ﷺ:
«كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه».
[١] أخرجه
الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم رقم: (١٩٢٧).
[٢] أخرجه أبو داود كتاب أبواب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، رقم:
(٣٥٤٣) والترمذي، كتاب البيوع، باب رقم: (٣٨) حديث رقم: (١٢٦٤) وقال الترمذي: حسن
غريب.
[٣] أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، رقم: (٢٦٠٥).
[٤] أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ
اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}، رقم: (٣٣٥٧) ومسلم كتاب الفضائل، باب من فضائل
إبراهيم ﷺ، رقم: (٢٣٧١).
[٥] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه، رقم: (٩١).
[٦] أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم: (٥٢) ومسلم كتاب
المساقاة، باب اخذ الحلال وترك الشبهات، رقم: (١٥٩٩).
[٧] أخرجه مسلم، كتاب البر، باب تحريم الغيبة، رقم: (٢٥٨٩).
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال