أسماء الله الحسنى
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
أسماء
الله الحسنى
مع
اسم من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو اسم العظيم.
هذا
الاسم قد أورده النبيّ ﷺ
في حديثيه الشهيرين الذين ذكر فيهما أسماء الله الحُسنى.
وأما
المعنى اللُغوي لكلمة العظيم، فإذا اشترك شيئان في قاسم مشترك، ورجح الأول نُسمِّي
الأول عظيمًا. إذا كان أحدهما زائدًا على الآخر في ذلك المعنى المشترك، سُمي
الزائد عظيمًا، نقول: هذا جسمٌ عظيم أي: له أبعاد له طولٌ أطول، وعرضٌ أعرض، وعمقٌ
أعمق، نقول: هذا الشيء عظيم.
أيّها القارئ الكريم يمكن أن نقول: فلانٌ
عظيمٌ في العلم، أي: يتمتَّع بعلمٍ غزير، ونقول: فلانٌ عظيمٌ في المال، وفلانٌ
عظيمٌ في الملك، وقد نقول عظيمُ القرية أي: سيِّدها، والعظيم مشتقٌ من العظم،
والعَظْمُ هو الضخامة والعزُّ والمجد والكبرياء، لا زلنا في اللغة الشيءُ العظيم
الشيءُ القوي، الشيءُ الضخم، الشيءُ العزيز، الشيءُ الماجد، ذو الكبرياء.
أما إذا قلنا: إنَّ الله -سبحانه وتعالى-
عظيم، فمعنى ذلك: أنه عظيمٌ في وجوده. المخلوقات موجودة، فالجبل موجود، والبحر
موجود، والسهل موجود، والإنسان كذلك موجودٌ، والحيوانات موجودة، والنبات موجود،
لكن هذه الموجودات جميعًا سبقها عدم، وسوف تنتهي إلى عدم.
أما
إذا قلنا: إنَّ الله عظيمٌ في وجوده أي: وجوده أزليٌ أبديٌ، لا شيء قبله، ولا شيء
بعده، هو الحيُّ الباقي على الدوام.
موضوع الفناء موضوعٌ يتَّصف به الخلق،
بينما موضوعُ البقاء من صفات الخالق. موضوع الحداثة من صفات الخلق، أما موضوع
القدم من صفات الخالق. أنت موجود والله موجود، وشتَّان بين الوجودين، أولًا: وجود
الإنسان يسبقه عدم وينتهي إلى عدم، هو حادثٌ فانٍ، لكنَّ الشيء الأهم أنَّ وجود
الإنسان مفتقرٌ إلى شروطٍ لا يملكها، فمن منا يملك استمرار وجوده؟ لا أحد فقد قال
تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}
[الزمر: ٣٠].
وجود
الإنسان متعلِّقٌ بشروط، لو منعت عنه الهواء يموت، لو منعت عنه الماء يموت، ولو
منعت عنه الطعام إلى أمدٍ معلوم يموت، لو حرمته من الزوجة يختلَّ توازنه، لو حرمته
من الأولاد يشعر بالقلق، وجود الإنسان وجودٌ قائم على غيره، على شروطٍ لا يملكها،
لكنَّ وجود الله سبحانه وتعالى، ذاتي لذلك قال تعالى: {قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: ١-٢].
فشتّان
بين الوجودين، فالله سبحانه وتعالى، عظيمٌ في وجوده، عظيمٌ في علمه، عِلْمنَا الآن
في هذا المكان، لا يمكن أن يتجاوز الجدران، ماذا يجري في الشارع؟ لا نعلم، ماذا في
البيت؟ لا نعلم علمه محدود متعلِّق بالحواس الخمس، ومتعلِّق بالحواجز، لكنَّ علم
الله سبحانه وتعالى، علمٌ مطلق تعلَّق بكلِّ ممكن فقد قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الحجرات:
١٦].
{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} علم ما كان، وعلم
ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون. فالله سبحانه وتعالى،
عظيمٌ في وجوده، عظيمٌ في علمه، عظيمٌ في قدرته، هو على كلِّ شيءٍ قدير، لا يعجزه
شيءٌ في السماوات ولا في الأرض.
تصور إنسانًا ينضوي تحت ظلِّ القدير، هل
يخشى قويًا؟ إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ يا ربِّ ماذا فقد
من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟
الله
عزَّ وجلَّ، عظيمٌ في وجوده؛ وجودهُ أزلي أبدي ذاتي. عظيمٌ في علمه؛ بكلِّ شيءٍ
عليم.
يعلم
الظاهر والباطن، ما جلا وما خفي، يعلم دبيب النملة السمراء على الصخرة الصمّاء في
الليلة الظلماء، إنه بكلِّ شيءٍ عليم.
على
كلِّ شيءٍ قدير عظيمٌ في قدرته، فمثلا بحسب علم الأطبّاء يقال لك: هذا مرضٌ عضال
لا شفاء منه. الإنسان أحيانًا يتوجَّه إلى الله -عزَّ وجلَّ- بالدعاء فتقف هذه
الخلايا التي تنمو نموًا عشوائيًا، وينحسر المرض، ويظهر الله آياته. عظيمٌ في
قدرته. عظيمٌ في قهره؛ سبحان من قهر عباده بالموت، قهر الجبابرة، قهر الطغاة، قهر
الذين نازعوه الكبرياء والعظمة.
عظيمٌ في سلطانه، عظيم في قهره، فالله
-عزَّ وجلَّ- سلطانه ممتدٌ إلى أيِّ مكان، وفي أيِّ زمان ومع أيَ مخلوق. يعني:
مدير الدائرة، سلطانه على موظَّفيه في أثناء الدوام، أما إذا تغيّبوا في البيت
فسلطانه عليهم لا يزيد عن أن يحسم من رواتبهم، أما سلطان الله على الإنسان؛ كلُّ
أجهزته بيد الله، وكلُّ أعضائه بيد الله، كلُّ حواسِّه بيد الله، ذاكرته بيد الله،
ودسَّامات قلبه، وكليته بيد الله، يعني: أن الإنسان إذا استيقظ صباحًا، ورأى أنَّه
قد سُمح له أن يعيش يومًا جديدًا، وأنَّه معافًى في جسمه، فهذه نعمةٌ لا يعرفها
إلا من فقدها، الكليتان تعملان بانتظام، جهاز الهضم بانتظام، البنكرياس يفرز
الأنسولين، القلب ينبض ثمانين نبضة في الدقيقة، الدسَّامات في القلب لا تسمح للدم
أن يرجع، فإذا رجع الدم إلى القلب أجرة العملية الجراحيّة لإصلاح ذلك تبلغ ستمائة
الف من الليرات، وقد تنجح وقد لا تنجح، وقد تجرى في القطر أو في خارج القطر، هذا
إذا رجع الدم إلى القلب، فمَنْ ضبط الدسّامات؟ فنحن تحت الطاف الله -عزَّ وجلَّ.
يقولون: أصيب فجأةً بعمى ألوان فتجده على
إشارة المرور الحمراء ينطلق بسيّارته بدلًا من الوقوف، إذا أصيب الإنسان بعمى
الالوان يمنع فورًا من قيادة السيّارة، وأنتم تسمعون وما أكثر الأمراض، وما أكثر
الخلل الذي يصيب بعض الأجهزة، أو بعض الأعضاء، فالله سبحانه وتعالى عظيم، عظيمٌ في
سلطانه.
يعني:
أنت لِكونك جسمًا ونفسًا فأحيانًا تشعر بانقباض، وأحيانًا ينشرح صدرك، وأحيانًا
يضيق صدرك، أحيانًا تتفاءل، وأحيانًا تتشاءم، أحيانًا يعروك الهمَّ: فإذا قصَّر
العبد في العبادة ابتلاه الله بالهمِّ والحزن.
أحيانًا تضعف معنويّاتك، تضعف أمام
عدوِّك، وأحيانًا يقوِّيك عليه، جسمك بيده، ونفسك بيده، ومن حولك بيده، وتجارتك
بيده، وزوجتك بيده، وأولادك بيده. قال بعضهم: أعرف مقامي عند ربّي من أخلاق زوجتي،
قد يسلس قيادها وقد لا يسلس!
أيّها الإخوة القراء الكرام، الله عظيمٌ
في وجوده، عظيمٌ في علمه، عظيمٌ في قدرته، عظيمٌ في قهره، عظيمٌ في سلطانه، عظيمٌ
في نفاذ حكمه. قد يتمنّى الإنسان مثلا مئات الحاجات والأشياء فلا تتحقق، ولكنَّ
الله سبحانه وتعالى، فعالٌ لما يريد، إذا أراد شيئًا
يقول: كن فيكون. كلُّ شيءٍ وقع أراده الله، كلُّ شيءٍ أراده الله وقع، أي: أنَّ
هذا العظيم، أيُنسى؟ أيُنصَرَف عنه؟ أيُعرَضُ عنه؟
أرى
لزاما عليّ أن أقول هذه الكلمة: لا يليق بالإنسان أن يكون لغير الله. وما أكثر
الناس الذين يعبدون عبادًا لله من دون الله، إما أن تكون عبدًا لله. فعبد الله
حُرّ، وإما أن تكون عبدًا لعبدٍ لئيم!
وأشدُّ
الناس خسارةً من ربط مصيره بمصير إنسان، لأنَّ هذا الإنسان لا يملك له نفعًا ولا ضرًّا،
ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا رِزقًا ولا عطاءً ولا حرمانا.
أرسل أحد الولاة إلى سيِّدنا عمر بن عبد
العزيز رسالةً قال فيها: يا أمير المؤمنين إنَّ أُناسًا قد اغتصبوا مالًا ليس لهم،
لستُ أقدر على استخراجه منهم، إلا أن أمسَّهم بالعذاب، فإن أذنت لي فعلته.
فقال
هذا الخليفة الراشد: يا سبحان الله، أتستأذنني في تعذيب بشر؟ وهل أنا لك حصنٌ من
عذاب الله؟ وهل رضائي عنك يُنجيك من سخط الله؟ أقم عليهم البيِّنة، فإن قامت فخذهم
بالبيِّنة، فإن لم تقُم فادعهم إلى الإقرار، فإن أقرّوا فخذهم بإقرارهم، فإن لم
يُقرّوا فادعهم لحلف اليمين، فإن حلفوا فأطلق سراحهم، وايمُ الله لأن يلقوا الله
بخيانتهم، أهون من أن القى الله بدمائهم، هل أنا لك حصنٌ من عذاب الله؟
أيُّها
القارئ الكريم. قيل: العظيم عظيمٌ لأنَّ العقول لا تصل إلى كنه صمديَّته. أيام
يكون شيء عظيمًا، لكن يُحاط به علمًا، تُدْرَكُ أبعادهُ، لكن إذا قلت: إنَّ الله
عظيم. العقول عاجزة عن أن تصل إلى كُنه صمديَّته، لذلك لا يعرف اللهَ إلا اللهُ،
وليس هناك نبيٌ بما فيهم سيِّد الأنبياء والمرسلين -عرف الله المعرفة المطلقة، هو
أعرفنا بالله؛ لكنَّ اللهَ لا يعرفه إلا اللهُ.
فالعظيم: هو الذي تعجز العقول عن أن
تُدرك صمديَّته، وتعجز الأبصار عن أن ترى كما قال بعض العلماء: سُرادقات عزَّته.
الآن
هناك نقطة دقيقة المعنى جدًا. من الممكن أن يحيط البشر إنسانا عاديا بهالةٍ عظيمة،
فبعض شعوب آسيا المتخلِّفة يأتون كاهنا من كهانهم بطفل فيسمونه إلهًا، ويحاط
بالتعظيم، والإجلال والإكبار والتقديس، فصار هذا الطفل عند كبره إلهًا لهم،
ويعظّمه الناس، فهو عظيمٌ لأنَّ الناس عظَّموه، أما هو في ذاته ليس بعظيم، أما إذا
قلت: إنَّ الله عظيم؛ لا لأنَّ العباد عظَّموه، لا لكن؛ لأنَّه عظيمٌ في ذاته، هو
مستغنٍ عن تعظيم العباد له، ففي الحديث القدسي: عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيمَا رَوَى عَنِ
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: «يَا
عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ
مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ
فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ
أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا
مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ
لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ
تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ
وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ
وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ
رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ
فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا
عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي
إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا
فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا
يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» صحيح مسلم.
أحيانًا
لشدّة ما يُحاط الإنسان بالتعظيم؛ يبدو للناس عظيمًا، لكنَّ الله -سبحانه وتعالى-
ليس كذلك، فهو عظيمٌ، سواء أَعظَّمه الناس أو لم يُعظِّموه، أعرفوه أم لم يعرفوه،
أقدَّسوه أم لم يُقدِّسوه.
فقد
تجد إنسانًا يقال لك عنه: هذا عظيمٌ في المال، أي: حجمه المالي كبير، اسأل وتحقق
عن ماله فتجده مئتي مليون، أصبح محدودًا، أو يبلغ ماله ثلاثمائة، أو أربعمائة، أو
ثمانمائة، أو ألف مليون، أو أربعة آلاف مليون، فقد تحدد الرقم، لكن إذا قلت إنَّ
الله عظيم، العلماء يقولون: "لا حدود لعظمته".
عظمته
لا نهائيَّة. وليس في الإسلام كلمة تُعبِّر عن هذا الإطلاق كقولك: الله أكبر. مهما
عرفت من قدرته فهو أكبر، مهما عرفت من علمه فهو أكبر، مهما عرفت من رحمته فهو
أكبر، مهما عرفت من سلطانه فهو أكبر، مهما عرفت من جلاله فهو أكبر.
وقيل العظيم: هو الذي ليس لعظمته بداية،
على مستوى البشر يقولون لك: فلان هذا كان لا يملك شيئًا، الآن عظيم بماله، وقد كان
فقيرًا، معنى هذا أنّ العظمة البشرية لها بداية، فلان ملك، لقد كان جنديًا في
بداية أمره مثلا، فلان دكتور من أساطين العلم، كان جاهلًا من قبل ذلك، فلهذه
العظمة بداية، إذا قلت: إنَّ الله عظيم، فليس لعظمته بداية، ولا لجلاله نهاية، هذا
معنى أن يكون الله عظيمًا.
وقيل العظيم: الذي لا تهتدي العقول لوصف
عظمته، ولا تحيط بكنهه بصيرة. أي: يستحيل أن تحيط بعظمة الله، من المعاني الدقيقة
جدًا التي يمكن أن تفسِّر قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ} [غافر: ٥٥]،
ما
ذنب النبي -عليه الصلاة والسلام؟ وقد قال تعالى: {لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: ٢]،
وقد قال تعالى كذلك: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى
النَّبِيِّ} [التوبة: ١١٧].
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} ما الذنب
الذي ارتكبه النبي؟ قال بعض العلماء: "هذه خاصَّةٌ برسول الله، لأنّه كلَّما
عرف جانبًا من عظمة الله، استحي من المعرفة السابقة، وكلَّما ارتقت معرفته بالله
رأى أنَّه أذنب في حقِّ الله، حينما عرفه أقلَّ مما ينبغي".
إذا كنت مثلًا ولله المثل الأعلى،
تتصوَّر إنسانًا يحمل شهادة الليسانس ثم تفاجأ بأنَّه يحمل الماجستير، ظننته يحمل
ماجستيرً، ثم تفاجأ أنه يحمل دكتوراه، ظننته يحمل دكتوراه ثم تفاجأ بأنَّ له
ثلاثين مؤلّفًا بعض هذه المؤلَّفات فريد نوعها في العالم، فكلَّما أدركت جانبًا من
علمه تكشَّف لك علمٌ لا تعرفه، إذًا أنت تشعر أنَّك مقصِّرٌ في معرفته، فربّما كان
ذنب النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- أنَّه كلَّما تكشَّف له جانبٌ من عظمة الله
عزَّ وجلَّ، شعر أنَّ معرفته السابقة هي ذنبٌ وقع فيه فلزمه الاستغناء جراء ذلك.
وبعد
فإنّ كلمة عظيم وردت في مواضع من القرآن الكريم، الموضع الأول: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا
بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: ٢٥٥]، أما الآية
الثانية: {لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى:
٤]، الآية الثالثة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ} [الواقعة: ٧٤]، الآية الرابعة: {إِنّهُ
كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقّة: ٣٣].
أيها
القراء الكرام: ما من مخلوقٍ من بني البشر إلا ما ندر إلا وهو يؤمن بالله، لكنَّ
الإيمان الذي يُنجّي هو أن تؤمن بالله العظيم، إن آمنت أنَّه عظيم؛ استحييت أن
تعصيه، وكبر عليك أن تعرض عنه، العبرة أن تؤمن بالله العظيم، إنَّك إن لم تؤمن
بالله العظيم، لن تُطيع الله عزَّ وجلَّ، اسال هؤلاء الناس الذين يعصون الله عزَّ
وجلَّ، ليلًا ونهارًا في كسب أموالهم، وفي علاقاتهم بالنساء، وفي عدوانهم على
الآخرين، وفي انحيازهم لمصالحهم، اسال هؤلاء الناس: الا تؤمن بوجود الله؟ فستجده
يقول لك: أعوذ بالله أنا مؤمن. إذًا كيف تعصيه؟ لأنَّه ما آمن بالله العظيم. هو
آمن بالله؛ لكنَّه ما آمن بالله العظيم، آمن بأنَّ لهذا الكون خالقًا، لكن ما آمن
بالله العظيم، الإيمان بأنَّ لهذا الكون خالقًا؛ هذه ضرورةٌ فطريَّة، أما الإيمان
الكسبيّ الذي يبنى على جهدٍ بشريّ؛ هو أن تؤمن بالله العظيم، لأنَّ الإيمان بالله
العظيم يحملك على طاعة الله العظيم، وأيُّ إيمان لا يحملك على طاعة الله لا قيمة
له، لا يُقدِّم ولا يؤخِّر، أرأيت إلى إبليس، اليس مؤمنًا فقد قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: ٣٩]، وقال
في آية أخرى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ} [ص: ٨١]، لكن هذه المعرفة وهذه الأقوال لم تغنه شيئًا ، فقد
عصى الله وكفر.
وأحيانًا تجد راقصة تقول: الله قد
وفَّقها بأداء هذه الرقصة، إذًا فهي مثل إبليس تمامًا: {فَبِعِزَّتِكَ
لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فهل هذ إيمان؟! هذا إيمان إبليسي، أي: إنَّك
أن آمنت أنَّ لهذا الكون إلهًا فهذا إيمان، لكن لا يرقى بك إلى السعادة؛ لأنَّه ما
حملك على طاعة الله، كيفَّ أنَّ إبليس: {قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وفي الآية الأولى: {قَالَ رَبِّ} ولكنّه ما آمن بالله العظيم، فلو أنه آمن
بالله العظيم لخشع قلبه لذكر الله.
فالإنسان
أحيانًا يتساءل يا تُرى حينما قال ربُّنا -سبحانه وتعالى-: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي
سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة: ٣١-٣٣].
يا
ترى لِمَ استحقَّ النار؟ لأنَّه ما آمن بالله العظيم؟ إنّ الجواب الشافي أنَّه
حينما لم يؤمن بالله العظيم فقد هان أمر الله عليه، وعصى أمر ربِّه العظيم،
استحقَّ النار على معصية، وعلى عدوان، وعلى انحراف، وعلى إغواء، فإن لم تؤمن بالله
العظيم، فلن تطيع الله عزَّ وجلَّ، فالعذاب في النار على المعاصي والآثام، وعلى
البغي والعدوان، وهذه نتيجة جهل الإنسان قدْر ربّه.
الآن ما هو المنعكس الذي ينعكس على
المؤمن من هذا الاسم العظيم؟ أجل؛ أتساءل لأثير خواطر القارئ الكريم.
أنت
مؤمن، وهذا موضوعٌ دقيق بالغ الدقَّة. إن رأيت عظمة الله عزَّ وجلَّ، تلاشت عظمة
نفسك. فأحيانًا تجد إنسانًا يملك مركبة صنعت في عام ثمانية وأربعين، فيها كلّ
علّة، فلو رأى مركبة حديثه مصنوعة في العام ستّة وتسعين، ويبلغ ثمنها خمسة وعشرين
مليونًا، فهل سيرى نفسه شيئًا بمركبته الأولى؟ سيتضاءل وسيتلاشى!
إذا
كان مالكًا بيتًا مئة متر تحت الأرض، وله اتجاهه شمالي، ودخل إلى بيت مساحته
أربعمائة متر، في أرقى أحياء دمشق، وله إطلالة جميلة جدًا، وفي كل أنواع الأثاث
الفخم والتزينات، فهل بعد ذلك يفتخر ببيته؟ ويتطاول قائلًا: بيتي. لا فبيته لا شيء
إزاء ما رأى!
إذا
كان يخدم في الجيش، ويحمل رتبة وكيل العرّيف -يضع شارة سبعة على ذراعه- ثم جلس مع
لواء؛ فهل سيقول لك: أنا أخدم في السلك العسكري؟ وأنا وكيل عريف أم سيسكت؟ سيسكت
قطعا.
إذا
كان معلمًا في قرية، وجلس أمام دكتور في الجامعة، وهو أعلى أستاذٍ في الجامعة، وله
خمسون مؤلّفًا، فهل يقول لك هذا المعلِّم: أنا، وعلمي، وأقوم بالتدريس في القريَّة
الفلانيَّة، أم سيسكت؟ سيسكت بالطبع ويتطامن.
بائع متجوِّل قعد أمام عضو غرفة تجارة
وحجمه المالي ثمانمائة مليون فهل سيقول: أنا تاجر؟ ومثله ممرض أمام جرّاحٍ للقلب،
والأمثلة كثيرة فالإنسان أمام خالق الأكوان هل يقول لك: أنا.
فهذا
حال الفناء. إن رأيت الله عظيمًا تلاشت ذاتك، فتجد المؤمن متواضعًا لأنَّه رأى
عظمة الله، فلا يقول: أنا فتذوب أناه، يا رب أنت العالم، ونحن الجهلاء، إليّ أنت
القويّ ونحن الضعفاء، ربي أنت الغنيّ ونحن الفقراء، يا رب: نحن بك.
فأوَّل أدبٍ يتأدَّبُ به المؤمن مع اسم
الله العظيم. أنَّ الكبر والاستعلاء والغطرسة والاعتداد بالنفس يتلاشى، وحينما
يتلاشى الكبر والاستعلاءُ والغطرسة والاعتداد بالنفس، يزيده الله عزًّا.
فهل
تعتقدون أنَّ هناك في الأرض إنسانًا أعزَّه الله، ورفع ذكره، وأعلى مقامه كرسول
الله؟ أنا لا أعتقد. اذهب إلى المدينة المنوَّرة في أيّ وقت، فهل من المعقول أن
ترى جامعًا يتّسع لثلاثة ملايين إنسان، جاؤوا من أقطار الدنيا؛ من باكستان وأمريكا
والفلبّين، ومن أستراليا من الصين من الهند وغيرها، جاؤوا ليزوروا هذا الإنسان، فمَنْ
هذا الإنسان وماذا أعطاهم؟ يقفون أمامه خاشعين يبكون، أنا لا أعتقد أنَّ في الأرض
كلِّها إنسانًا رفع الله ذكره وأعلى مقامه وأعزَّه كرسول الله، وفي الوقت نفسه لا
أعتقد أنَّ إنسانًا افتقر إلى الله، وتذلل له، وتلاشى أمامه كرسول الله.
فالقضيَّة
محيِّرة، كلَّما ازدتَّ افتقارًا إلى الله، أعزَّك. كلَّما ازدتَّ افتقارًا
وتذللًا وتواضعًا، رفع الله لك ذكرك. النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- يُذْكَرُ
كلّما ذُكرَ الله في قولك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمّدًا
رسول الله، خمس مرات على مدار عقارب الساعة في الكون الرحيب هل هناك إنسان أقسم
الله -عزَّ وجلَّ- بعمره كرسول الله: {لَعَمْرُكَ
إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: ٧٢].
أنت
حينما تفتقر لله، وحينما تتواضع، وحينما تقول: يا ربِّ أنا لا أعلم، إنَّك أنت
العالم، أنا ضعيفٌ، في رضاك قوتي، أنا فقيرٌ أغنني، أنا جاهلٌ علِّمني، أنا ضعيفٌ،
أنا أضعف خلقكك، يا ربِّ أنت الكريم العظيم، يزيدك الله عزًّا.
الأدب
الذي ينبغي أن تتأدَّب به مع اسم الله العظيم، أن تشعر بالفناء أمامه. لذلك إن
رأيت إنسانًا متغطرسًا، متكبِّرًا معتدًّا بذاته يقول لك: أنا فهو هباء لا يساوي
شيئًا، إنَّك لم تؤمن بالله العظيم، لو آمنت بالله العظيم لتلاشت ذاتك، ولضعُفت
قواك، ولذلَّت نفسك، -وسبحان الله- هذه العلاقة المعكوسة. كلَّما ازدتَّ تواضعًا،
زادك الله عزَّا.
بالأرض
كلها ما من فاتح على الإطلاق دخل مدينةً، نكَّلت به سابقًا، وناصبته العداء عشرين
عامًا، إلا ويدخلها متغطرسًا، متكبِّرًا متعجرفًا.
فتيمورلنك
دخل إلى الشام؛ فأمر أن يُبنى هرمٌ من جماجم الناس، خمسون ألف رأسٍ صفت من رؤوس
البشر فوق بعضها، في المكان المسمَّى الآن برج الروس. ليس هناك غازٍ دخل بلدةً إلا
واستباحها، دخل متعجرفًا متغطرسًا، إلا النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- دخل مكَّةً
فاتحًا، فكادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، تواضعًا لله عزَّ وجلَّ، هذا من فضل
ربّي.
صدقني أيُّها الأخ الكريم بكل انجازاتك
قل: هذا من فضل ربّي، قل: الله وفَّقني، الله أكرمني، الله سمح لي أن أتكلَّم عنه،
الله أطلق لساني، الله أعانني على طاعته، أعانني على تربية أولادي، أعانني على كسب
رزقي، أعانني على الاستقامة، هذا واقع؛ لأنَّه مَنْ قدوتك بهذا؟ سيِّدنا يوسف فقد
قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: ٣٣].
قد
تجد إنسانًا ذا شخصيَّةٍ مرموقةٍ جدًا، يقع في شرك امرأةٍ لا تساوي واحدًا بالألف
من زوجته! ويُذلَّ وتلوكه الالسن، ويعاديه أولاده، ويصبح في الوحل، أين مكانته؟
وأين عقله؟ وأين شخصيَّته؟
إذا
القضيَّة أن تتأدَّب مع الله بالافتقار إليه، إذا كان الله عظيمًا، ينبغي أن
تتلاشى نفسك وتفنى. وأوضح مثلٍ على ذلك الصحابة الكرام؛ ففي موقعة بدر قال تعالى،
عنهم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ} [آل عمران: ١٢٣]، أذلَّة في العدة والعدد، ثلاثمئة رجل فقط من
الصحابة، وقريش القبيلة العريقة القويَّة، الأبطال الصناديد، الفرسان، والأسلحة،
سيوفًا خيولًا {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}.
أما
بحنين: فقد كان أصحاب النبي عشرة آلاف، أقوياء عُدّة وعددًا قال الله تعالى، لهم:
إذًا فانتظروا ما سيصيبكم بسبب عُجْبِكم لنقرأ الآية الكريمة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ
تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ} [التوبة: ٢٥].
{ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}.
خطيب
من نوادر الخطباء القى خطبة في يوم جمعة رائعة جدًا، ثمّ نزل ليصلّي بالناس، فبعد
أن قال: الله أكبر. نسي الفاتحة. فالله قد ينسيك، ينسيك أهم شيء بالخطبة، أو
بالصلاة، فاحذر أن تقول أنا.
لذلك
فالمؤمن الصادق إذا أقدم على عمل يقول: اللهمَّ إني تبرَّأت من حولي وقوَّتي،
والتجأت إلى حولك وقوَّتك يا ذا القوَّة المتين.
وهناك
رواية ثانية: اللهمَّ إنّي تبرَّأت إليك من حولي وقوَّتي وعلمي، والتجأت إليك
بحولك وقوَّتك وعلمك يا ذا القوَّة المتين.
حدّثني
أحد الأشخاص عن نفسه أنّه منذ أربعين عامًا قال: كنت أنا لا أصلّي لأني كنت آنذاك
طالبًا، وكنت أستغل هذا الوقت الضائع بتقديري في الصلاة بقراءة صفحتين أو ثلاث.
فدخل لأداء الامتحان يوما وكان السؤال عن مؤتمر برلين، فأجاب بأنَّه عُقد في
باريس، الله توَّه أفكاره وأضلّه، من ابتغى أمرًا بمعصيةٍ، كان أبعد مما رجى،
وأقرب مما اتَّقى.
لا
تؤاثر شيئًا على طاعة الله، لا تؤاثر شيئًا على مجلس علم، لا تؤاثر شيئًا على عمل
صالح، على أداء صلاة.
يقول
-عليه الصلاة والسلام- ما معناه: «من تعلَّم وعمل بما
علم، ثم علَّم الغير، فذلك يُدعى في السماء عظيمًا».
هو
بنظر نفسه فقيرٌ جدًا، أما في السماء عظيم، لذلك دخل على النبيّ رجل فقال له
النبيّ الكريم: «أهلًا بمن خبَّرني جبريلُ بقدومه».
قال: أومثلي؟ قال: «نعم يا أخي، خاملٌ في الأرض، علمٌ
في السماء».
فأنت
قد تكون موظَّفًا في الدرجة العاشرة. كاتب، تجلس إلى طاولة وعلى كرسي متواضعين،
مراسلًا، حاجبًا، معلِّمًا، موظفًا بسيطًا قد تكون علمًا في السماء، قد تكون عند
الله عظيمًا، وعند الناس شخصًا مغمورًا، لذلك النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- قال:
«ابتغوا الرفعة عند الله».
أجل،
عند الله؛ لأنَّ مراتب الله -عزَّ وجلَّ- تنفعك بعد الموت، لكنَّ مراتب الدنيا
تفنى عند الموت، فقد يكتبون في النعوات مثلًا. الطبيب الفلاني، أو المهندس، أو
عميد أسرتهم؛ فليكتبوا ما يشاؤون، لكنَّ العبرة أن يكون عند الله مقبولًا، أحيانًا
يكتب في النعوة أكثر من مائة اسمًا أقرباء كما يكتب آل فلان وفلان، وفلان. الخ يا
ترى هل هو عند الله عظيم؟ إن لم يكن في طاعة الله، إن لم يكن يعرف الله -عزَّ وجل-
فأولئك لهم صغارٌ عند الله، فقد قال تعالى: {فَلَا
نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: ١٠٥].
روى
الإمام البخاري أنَّ النبيَّ ﷺ
كان يدعو عند الكرب بهذه الكلمات: عَنِ أبْنِ عَبَّاسٍ -رَضِي اللَّه عَنْهمَا-
قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ
يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ: «لا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ.» رواه البخاري.
هذا
دعاء النبيُّ عند الكرب، وهذا الدعاء فيه علم، فكل شيء بيد الله، فهو القوي الغني
العليم الرحيم الغفور التوَّاب. حنّان، منَّان.
لا
إله إلا الله العظيم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب
السماوات ورب العرش العظيم، هذا دعاء النبي عند الليل.
وورد في الحديث القدسيِّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَقُولُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ
إِزَارِي مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ»
سنن ابن ماجة.
أرسلوا
مركبة فضائيّة وسموّها المتحدّي (اتشالنجر) وبعد سبعين ثانية أصبحت كتلةً من
اللهب، وفي داخلها سبعة روّاد فضاء وامرأة طبعًا قمَّةً في العلم والتقنية
ومراجعات قبل إطلاقها وعد تنازلي، وكلّ جهاز مضاعف، سموها المتحدّي. فمن تتحدَّون؟
بعد سبعين ثانية أصبحت كتلة من اللهب.
وكلُّكم
يرى كيف أنَّ قلاعًا صامدةً جبَّارةً، تهاوت كخيط العنكبوت! وهناك غطرسة، إنسان
فرد يرعب أمَّة بأسرها كما تسمعون في الأخبار، وأنّ واحد فجّر نفسه فهزَّ الكيان
كلّه، فالله -عزَّ وجلَّ- أحيانًا يقهر المتجبِّر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: «الْكِبْرِيَاءُ
رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ
فِي جَهَنَّمَ» سنن ابن ماجة.
أيُّها
القارئ الكريم: عود على بدء العظيم؛ قد لا تُدركه عامَّة العقول؛ لكنَّ بعض العقول
تدركه، فقل لأحد الناس: ما هي الذرَّة؟ يقول لك: ذرَّة قمح ذرة تراب. لا. الذرَّة؛
شيء موضوعه كبير جدًا، وهو موضوع في علم الفيزياء ذو تعقيد كبير جدًا، كلّ عناصر
الكون ذرَّات، وهي تتكوَّن من نويّة موجبة الشحنة، وجسيم سالب الشحنة -إلكترون-
ومدارات يدور فيها هذا الإلكترون، الذرَّة العقول البسيطة لا تحيط بها، أما دكاترة
العلوم يعرفون عنها الشيء الكثير.
فالشيء
العظيم هو الذي تعرفه بعض العقول، الذي تستحيل أن تحيط به كلُّ العقول.
المعنى الثاني: إن رأيت أنَّ الله عظيم؛
ينبغي أن تُعظِّم أمره، إن رأيت أنَّ الله عظيم؛ ينبغي أن تتلاشى أمامه فأنت صغير
صغير، إن رأيت أنَّ الله عظيم! ينبغي أن تعظم أمره، أن تعظِّم شعائره، أن تعظِّم
كتابه، أن تعظِّم رسوله، أن تعظِّم الذي آمن به، فالناس من يعظِّمون؟ الأقوياء
والأغنياء أما المؤمن الضعيف، يقولون لك عنه أنَّه درويش أي: (أجدب)، لكن المؤمن
الراقي يعظِّم المؤمنين ولو كانوا فقراء، ولو كانوا ضعفاء، النبيِّ سيِّد الخلق
يقول: «اللهمَّ إنِّي أشكو إليك ضعف قوَّتي وقلَّة
حيلتي وهواني على الناس. يا ربَّ المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى عدوٍّ ملَّكته
أمري. إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ، فلا أُبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكنَّ عافيتك
أوسع لي».
سيِّد
الخلق لما قدم الطائف سخروا منه وضربوه بالحجارة وكذَّبوا دعوته، وقال له أحدهم:
لو أنَّك رسول كما تدَّعي، لمزَّقتُ أثواب الكعبة، الم يجد الله إنسانًا غيرك
يبعثه رسولًا؟ هو عظيم.
فيا
أخي القارئ الكريم: إن رأيت أنَّ الله عظيم فعليك أن تعظِّمه، تُعظِّم أمره،
تعظِّم نهيه، تعظِّم كتابه، تعظّم نبيَّه، تعظِّم المؤمنين، تعظِّم الذين يُلقون
العلم على الناس، لا تستخفَّ بهم، لا تنهش أعراضهم، لا تُحقِّرهم، فتجد شخصًا
يتلذذ إذا حجَّم إنسانًا آخر له دعوة إلى الله، يظُنُّ أنَّه يفعل شيئًا عظيمًا
ويقول لك: صغَّرته. ففي الحقيقة هو الصغير، فلو أنه عرف الله لعظَّم أولياؤه، فقد
قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ} [يونس: ٦٢-٦٣].
فلو
كنت راكبًا في سيّارة عامَّة وصعد إليها رجل له زي إسلامي أجلسه مكانك وقف باحترام
فأنت تعظِّم الدين لا تعظِّم شخصًا، فإذا رأيت إنسانًا له مظهر دينيّ، أو مكانة
دينيَّة، لا ينبغي أن تحقره وتصغّره هذا مما يعاقبك الله عليه، هذا الذي يقع في
أعراض العلماء يذُمُّهم يطعن بهم، يصغّرهم دون أن يبالي؛ فيعاقبه الله عقابًا
شديدًا لتماديه وتطاولِه.
فأولًا يجب أن تعظم الله، تعظم كتابه،
ورسوله وأمره ونهيه، وتعظِّم شعائره والدليل على ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٣٢].
وكذلك
أن تعظِّم المصحف فهو كتاب الله تعالى، وليكن في مكان عالي مرموق في البيت، لا أن
تضعه في أماكن مرذولة، تعظيم المصحف دليل تعظيمك لله. تعظيم الصلاة دليل تعظيمك
لله. تعظيم الأمر والنهي دليل تعظيمك لله عزَّ وجلَّ، هذا الموقف الثاني الذي
ينبغي أن يقفه المؤمن حينما يؤمن بالله العظيم.
بعض العلماء تكلَّموا عن أدب المؤمن مع
الله العظيم، فذكروا: "أنَّ من غلب على عقله تعظيم الله عزَّ وجلَّ، خضع
لهيبته، ورضي بقسمته، ولا يرضى بدونه عِوضًا، ولا يُنازع له اختيارًا، ويبذل في
رضاه كلَّ مستطاع، لأنَّ من أدرك عظمة ربِّه، صغرت عنده الدنيا بما فيها، فإذا
أهمَّه أمرٌ قال: يا عظيم".
قال أحدهم لرسول الله ﷺ: لمن هذا الوادي؟ قال:
«هو لك». قال: أتهزأ بي؟ قال: «لا والله هو لك». قال: أشهد أنَّك رسول الله تعطي
عطاء من لا يخشى الفقر.
إن
عظَّمت الله -عزَّ وجلَّ- حقَّ التعظيم، يستوي عندك التبر والتراب، تبذل الشيء
الكثير بلا وجل من أجل الله -عزَّ وجلَّ.
وبعد فمن هم العظماء من العباد؟ أنبياء
الله، وأولياؤه، والمؤمنون، هؤلاء هم العظماء. أما بيكاسوّ الرّسام الفنان الذي
بلغ ثمن لوحته مائة مليون. فليس عظيمًا. لأن العظيم ينبغي أن يكون عند الله
عظيمًا، فهناك رسَّامون وأصحاب فنون، وملك الحديد في أمريكا، وملك الصلب، وملك
البترول وغيرهم عظماء عند أهل الدنيا. لكن العظيم هو النبيّ، والعظيم هو الوليّ.
والعظيم هو الذي آمن بالله عزَّ وجل، هؤلاء الذين يستحقّون أن تقول عن أحدهم: فلان
عظيم.
وفي نهاية البحث فإنّي أؤكِّد على معنيين
اثنين، أن تتلاشى نفسك أيها الأخ المؤمن أمام عظمة الله وأن تُعظِّم أمر الله
ونهيه وكتابه ونبيّه وأولياءه، وإذا كان لأحد من الناس دعوةً إلى الله -عزَّ
وجلَّ- فلا ينبغي أنتطلق لسانك لتنال منه، وهذا من لوازم إيمانك بالله -عزَّ
وجلَّ- فلو أن شخصًا له مظهرٌ إسلامي فمن المفروض عليك أن تحترمه احترامًا للدين.
هذه
بعض المعاني التي تنطوي حول اسم الله العظيم، وأرجو الله سبحانه وتعالى، أن ينفعنا
بما علَّمنا وأن يُلهمنا الخير.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
مواضيع ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق