أسماء الله الحسنى
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
شرح اسم الله (الحليم)
مِن
أسماء الله الحسنى والاسم الذي نحن في رحابه الحليم، ومعلوم أن من أسماء الله
الحسنى ما لا يُسمى الإنسان بها كاسم الخالق، ومن أسماء الله الحسنى ما يسمى
الإنسان بها كالرحيم والحليم والعفو، فمِمَا يلفت النظر أن النبي -عليه الصلاة
والسلام- فيما ورد عنه من أحاديث قال: «الحلم سيد
الأخلاق»
وقد
قيل: كاد الحليم أن يكون نبيًا.
فما
هذه الصفة التي إذا اتصف بها العبد كاد أن يكون نبيًا؟ إنها الحلم والحلم سيد الأخلاق،
والله سبحانه وتعالى حليم، أمّا الآية التي في القرآن الكريم والتي يُستنبط منها
اسم الحليم: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ
بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: ٤٥].
هذه
الآية يُستنبط منها اسم الحليم وفي سورة النحل أيضًا الآية الواحدة والستين وكذلك
قد يستنبط منها اسم الحليم: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ
اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ}.
إذًا
هم ظالمون وهناك مؤاخذة، فما تعريف اسم الحليم؟ هناك إنسان ظالم وهناك عقوبة لهذه
الظلامة، والله سبحانه وتعالى حليم، فكيف تجلى حلمه؟ هناك ظالم أو متلبس بذنب
عاصٍ، وهناك عقوبة مختصة بهذا الظلم أو هذه المعصية.
لكن
الله سبحانه وتعالى حليم، بمعنى: أنه يؤخّر العقوبة، لماذا يؤخر العقوبة؟ وهذا
السؤال وجيه! فلو أن الله سبحانه وتعالى، عجّلَ العقاب لكل مذنب حين يقع في ذنب
لما كان هناك حلم، ولو أن الله -عز وجل- أخّرَ العِقاب ويريد بعد تأخير العقاب أن
يوقع بهذا الإنسان أشد العقاب، فقد قال العلماء: هذا هو الحقد، وحاشا لله فالحاقد
يمتلئ شعورًا بالغيظ لكنه يؤخر تنفيذ عقابه لسبب أو لآخر، قد يكون ضعيفًا وحقده عن
ضعف، وقد يكون قويًا ولكن يحب هذا الظالم لهذا المسيء أن تزداد إساءته ليأخذه
بأكبر ذنوبه، فحينما يؤخّر إنسان العقوبة لضعفه فهو الحاقد، وحينما يؤخر إنسان
العقوبة ليجعل خصمه يقع في ذنب أكبر فيوقع به أشد العقاب فهذا أيضًا حاقد وهو حاقد
قوي، فهناك إذًا حاقد قوي وهناك حاقد ضعيف.
وتأخير
العقاب من قبل الله -عز وجل- ليس له علاقة بهذا المعنى إطلاقًا، فلو أنه الغى
العِقاب فهل يسمى حليمًا؟ لا. فماذا يُسمى إذًا؟ يسمى عفوًا غفورًا، وإذا أخّرَ
العِقاب ليُعطي هذا الإنسان فُرصةً ليعود فهذا هو الحلم.
مثل
بسيط يمكن أن يوضح هذه الحقيقة: أنشأنا مدرسة هدفها الأول التعليم والتهذيب
والتربية والتثقيف والتقويم وما إلى ذلك، ولهذه المدرسة نظام داخلي، ومن بنود هذا
النظام أن الطالب إذا غاب عن هذه المدرسة أسبوعين يُفصل، فلو أن المدير كلما رأى
طالبًا غاب أسبوعين فصله، لفصل كثيرًا من الطلاب في فترة وجيزة، لكن هناك مدراء
يحلمون، يطلب من الطالب أن يأتي بوليّه، وأن يأتي بتقرير طبي، يتغاضى أحيانًا،
يتغافل أحيانًا، لا يُطالب الموجّه بتقديم بيان بالغائبين، لأن الهدف من إنشاء هذه
المدرسة نبيلٌ جدًا، ليس القصد أن يفصلهم ولكن القصد أن يعلمهم، لذلك ربنا -عز
وجل- قال: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: ١٢٩].
ما
هذه الكلمة؟ لولا هذه الكلمة لكان لزامًا أن يوقع العقاب عليهم ويعجله، لولا هذه
الكلمة لكان لزامًا أن يهلكهم، لولا هذه الكلمة لكان لزامًا أن يأخذهم، ما هذه
الكلمة التي أخرّت العِقاب، وأخرّت الهلاك، وأخرّت الجزاء؟ ما هذه الكلمة؟ إنها
الرحمة أراد أن يرحمهم، ويؤكد هذه الحقيقة؟ رحمتي سبقت غضبي، وسعت رحمتي كل شيء: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ١٥٦]، {إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: ١١٩]، {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: ٧٧].
لولا
أنكم تعرفونه، وتدعونه في ضوء معرفتكم، ولولا الأمل في أن ترقوا، ولولا الأمل في
أن تتوبوا، ولولا الأمل في أن تنجوا، فما يعبأ بكم ربي، لولا أنه يعبأ بكم لأوقع
الهلاك والعِقاب والجزاء وانتهى الإنسان إلى بوار.
إذًا:
من أسماء الله الحسنى أنه حليم، لا يُوقِع العِقاب فورًا، ما من مسلم إلا وهو يعلم
أن صُلَحَ الحُديّبّية، في ظاهره مهانة للمسلمين، لأن فيه تنازلات وهم في حالات
قوية، تنازلات أباها الصحابة، ورأوها نوعًا من الذُل ونوعًا من الاستسلام، وقد
أدهشهم موقف النبي -عليه الصلاة والسلام- والنبي لما رأى هذا الاستنكار قال: إنني
أفعل ما أُؤمر بتوجيه من ربي، وأن أقبل بهذا الصلح، ثم جاء الجواب: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}
[الفتح: ٢٥]،
في مكة أُناسٌ آمنوا خِفية، آمنوا بقلوبهم وبقوا مع قريش بأجسامهم، هؤلاء يعلمهم
الله، لذلك أخّرَ فتح مكة كله، وأمر النبي أن يقبل بهذه الشروط التي تبدو مهينة من
أجل أن يعطي هؤلاء فرصة كي يؤمنوا. إذًا أنت تتعامل مع الحليم.
«عبدي لي عليك فريضة ولك على رزق فإن خالفتني في فريضتي لم
أخالفك في رزقك».
«إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم
بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب».
وأسماء
الله -عز وجل- منها ما هي أسماء ذات، ومنها ما هي أسماء صفات، ومنها ما هي أسماء
أفعال، فيا ترى اسم الحليم اسم ذات أم اسم صفة أم اسم فعل؟
لأنه
أخّرَ العقوبة فهي صِفة فعل، فالله -عز وجل- يُحب عباده جميعًا.
«لو يعلم المُعرِضون انتظاري لهم وشوقي إلى ترك معاصيهم
لتَقَطّعَت أوصالهم من حبي ولماتوا شوقًا إلي»
فالله
-سبحانه وتعالى- كما قال على لسان السيد المسيح: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ] [المائدة: ١١٦].
وأحيانًا
الإنسان لا يُعاقِب، لكن من الداخل يغلي، يقول: اشتهيت أن أُمزقه، فليس هذا هو
الحلم، الحلم لو شققت صدر هذا المؤمن لرأيت فيه السلام، فيه الراحة، ليس في قلبه
حقد ولا يتمني أن يقهر خصمه ويمزقه.
المؤمن
العادي الحليم ينطوي على نفسٍ وديعة، صافية، مُسالِمة لا حقد فيها فكيف بالله رب
العالمين؟ لذلك إذا سمعتم في الحديث الشريف أو في القرآن الكريم أن الله قد غضب
وقد لَعَنَ، فالله -سبحانه وتعالى- لا يبغض العبد بل يبغض فعله فقط، ويلعن فعله
فقط.
ويحبه
كحب الأُم حينما يعود ابنها إلى الصواب، مرة ذكرت للقراء الكرام أن أحد العارفين
وهو ذو النون المصري، شَعَرَ بضيق، وبتشتت، وشَعَرَ بضياع، فقال: أين قلبي؟ أين
ضاع قلبي؟ قلبي في ضياع، وفي طريقه في بعض أزقة المدينة رأى بابًا يُفتح، ورأى
أُمًا تضرب ابنها ضربًا مبرحًا وتلقيه خارج البيت وتُغلق الباب، جلس هذا الطفل
يبكي فأين يذهب؟ إلى أي بيت يدخل؟ من يسأل ليطعمه؟ أين ينام؟ فما كان منه إلا أن
عاد إلى باب بيته، وجلس على عتبة الباب يبكي ويبكي، وكانت أمه من رحمتها الشديدة
به تنظر إليه من ثقب الباب، فما كان منها إلا أن فتحت الباب وأخذت ابنها، ووضعته
في حضنها وقالت: يا قرة عيني يا عزيز نفسي أنت الذي حملتني على ما تكره، لو أطعتني
لما رأيت مني ما تكره، فصاح هذا العارف بالله: وجدت قلبي وجدت قلبي.
إذًا:
فالحليم من أسماء الأفعال يعني: أخر العقوبة فقط، أما إذا قلنا الحليم من أسماء
الذات أو أسماء الصفات فمعنى ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- لا يحقد.
عَنْ
أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي
وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ
وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ
وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ
رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ
فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا
عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» صحيح
مسلم.
{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: ٨].
ولا
يرضى لعباده الكفر. وإن تشكروا يرضهُ لكم.
ربنا
-عز وجل- أراد أن يُعرّفُنا بِذاته، فجعل نظام الأبوة والأمومة وهو في ظاهره أبوة
وأمومة وأولاد وتربية ومستقبل، وباطنه أن تتعرف إلى الله من باب المثل، سأنقلكم من
هذا المثل إلى مثل أوسع: فكيف جعل ربنا -عز وجل- هذا الطعام الذي تأكله أعني لحم
الضأن، لِحِكمةٍ أرادها جعل بُنية هذا الحيوان مشابهة تمامًا لبنية الإنسان، فليس
كل واحد منا طبيب، وليس لكُل واحد أن يرى ما في بطن الإنسان، فلن يتمكن من رؤية
المعدة والكبد والأمعاء، والرئتين، والقلب والشرايين والأوردة والعضلات والأعصاب
والأوتار والغدد والكليتين والمثانة والحالب والدماغ، والعين، ولا يُتاح لواحد منا
أن يرى ذلك، ولكن يرى هذا كل يوم عند القصاب، تريد كلاوي، طحالًا بيضات غنم، أنواع
اللحم، هنا عضلة مخططة، هنا عضلة ملساء هنا قفص صدري هنا عمود فقري، هنا نخاع،
الإنسان يطلب النخاع ليستخلص ما فيه من لب، هذا اللب معامل تصنع كريات الدم
الحمراء، فلِحِكمةٍ بالغة جعل هذه الأنعام لها بنية تشريحية فيزيولوجية تُشابِه
خَلقَ الإنسان فمن لم يتعلم في كلية الطب تعلم عند بائع اللحم.
عودة
لنظام الأبوة والأمومة هذا نظام فريد من نوعه، يا ترى الأب يهمل نفسه أحيانًا
ويسعى من أجل أولاده، الأولاد يقفون موقفًا قاسيًا أحيانًا فيه فظاظة غلظة، كلامٌ
قاسٍ، لامبالاة، عقوق، وقلب الأب وقلب الأم معلّق بأولادهما، وفي أية لحظة قد يعود
هذا الابن إلى أبيه تائبًا، يعود إليه منيبًا يقبله الأب ويفرح فرحًا كبيرًا.
الذي
أراه أن نظام الأبوة والأمومة له هدف أكبر من تربية الأولاد أن تتعرف إلى الله من
باب المثل، كيف أن الأب لا يحقد، الأم لا تحقد، الأم كل حياتها من أجل أولادها، كل
سعادتها من أجل إسعاد أولادها، وحينما رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- أُمًا
تقَّبِل ابنها، يبدو أنه سُئِل كيف يلقى الإنسان في النار مع أن الله أرحم
الراحمين، أجابهم إجابة ذكية لطيفة ليست معقدة، رأى أمًا تقبل ابنها على التنور
فقال لأصحابه: أتلقي هذه المرأة بولدها إلى النار، قالوا: معاذ الله، قال: «والذي نفس محمد بيده لله أرحم بعبده من هذه المرأة بولدها».
الأب
لا يبتعد عن ولده، يُحلل شعوره تجاه ابنه والأم شاهدها معها، إلا وهو قلبها الرحيم
الحاني، فمن أودع في هذا القلب الرحمة تستيقظ عشرات المرات في الليل من أجل
وليدها، إن أصاب وليدها مكروه تبكي، تتمنى أن تعطيه من صحتها، من جسمها، من غذائها
إذًا نظام الأسرة نظام له هدفان، هدف لتربية الأولاد وهدف أكبر بكثير أن تتعرف إلى
طرف يسير جدًا من رحمة الله -عز وجل.
تُشاهد
حادثًا تتجلّى فيه رحمة الله كما تتجلّى فيه عناية الله سبحانه، ترى حادثًا
مروّعًا وقد نجا الكُل بعناية الله وقدرته، قد ترى إنسانًا في ساعة ضيق شديد
فيأتيه الفرج، ويتبدده الكرب، وأحيانًا يصل الإنسان إلى درجة اليأس فيأتيه
الإكرام، لذلك قيل:
فلَرُبَّ
نازلة يضيق بها الفتى ذرعــًا وعند الله منها المخــرج
نزلت
فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظن أنها لا تُفــــرج
وليست
معركة الخندق بخافية عليك أيها القارئ الكريم، لكن الله -عز وجل- يمتحن المؤمنين؛
إيمانهم وصبرهم، ومدى التجائهم إليه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ
جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ
أبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: ٩-١٢]، لكنه بعد ذلك رحمهم،
وأكرمهم ونصرهم وأعزهم ورفع شأنهم وأحبطَ أعداءهم، بعدما بدا للمؤمنين أن الإسلام
انتهى أمره، وأن المعركة مع الكفار ليست معركة نصر أو هزيمة بل معركة حياة أو موت،
معركة نكون أو لا نكون، هذا الذي حصل ويحصل فيكل معركة حاسمة.
وأكرر؛
إن الله -عز وجل- حليم. ومعلوم أنَّ الله يُحب الكمال، إن الله طيبٌ ولا يقبل إلا
طيبًا، والله سبحانه وتعالى، يحب المحامد، وليحذر القراء الكرام أن يفهموا من هذا
الحديث أن الله يحب أن يحمد، لا، بل إن الله يُحب الكمال، يُحب العمل الذي يُحمد
عليه الإنسان، يُحب الحلم، يُحب الرحمة، يُحب الإنصاف يُحب العدل.
ومعلوم
أيضًا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سيّد الخلق وحبيب الحق، ففي حياته امرأةٌ
زنت وكان لا بدَّ من أن يُقام عليها الحد، والحد هو الرجم، فجاء أهلها إلى حب رسول
الله، إلى أحب الناس إلى النبي وطلبوا منه أن يشفع لها عنده، من هو؟ أسامة بن زيد،
فجاء أسامة على استحياء وكلّمَ النبي -عليه الصلاة والسلام- في شأن هذه المرأة
الزانية، يقال: تلون وجه النبي، وقال: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله.
وفي
رواية: عَنْ عَائِشَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ
شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: وَمَنْ
يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: وَمَنْ
يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»
ثُمَّ قَامَ فَأخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا
أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ
تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأيْمُ
اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»
صحيح البخاري.
فالله
يُحب العمل الذي يُحمد صاحبه عليه، يعني: يُحب مكارم الأخلاق: «إن الله جواد يحب الجود ويحب معالي الأمور ويكره سفاسفها»
أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز.
إن
الله يُحب أن تكون عاليًا في نظر الناس.
الله
-عز وجل- يحب الحليم لأنه حليم، والحليم يحب الحليم، وعلاقتنا بهذا الاسم كمؤمنين،
أن نكون حلماء، فما الطريق إلى الحلم؟ وهو سؤال جدير بالإجابة.
ما
دامَ الله -عز وجل- يُحب المحامد، ومن محامده أنه حليم والنبي -عليه الصلاة
والسلام- يقول:
«تخلّقوا
بأخلاق الله". كيف أكون حليمًا؟ التفكّر باسم الحليم طريق إلى أن نكون حلماء،
هناك طريق آخر، أن يكون الإنسان متحلمًا، أي: يتصنع الحلم.
فكل
واحد منا له مرتبة عند الله، لو فرضنا أن إنسانًا مرتبته دُنيا، ووضع في ظرف فيه
استفزاز، فأحيانًا يدخل إلى البيت ولا يجد طعامًا، ولم يأكل قبل مغادرته صباحًا،
وقد أمضى يومًا شاقًا، زوجته عند أهلها، وذهبت بلا إذن وعادت الساعة الثالثة،
وقالت: لم أعد طعامًا لو دبرت أمرك، ببساطة وببرود، والزوج في غليان، فيصيح،
ويتكلم كلمات قاسية، ويمكن أن يضرب، لكن المؤمن ماذا يفعل؟ قال الله:
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: ١٣٤].
فالقرآن
ذكر كظمُ الغيظ، وحث عليه وأثاب عليه والنبي سماه تحلّم، يعني: ليتصّنع الحلم فهو
من الداخل يغلي غليان البركان، فليتصنّع الحلم، وليضغط على أسنانه، كفعل الإنسان
عندما يعطى إبرة البنج، فيمسك وسادة المقعد ويشد عليها، ويتحامل على نفسه، أما
الصغير فقد يسب الطبيب، وفورًا يصيح، يبكي، هذه العملية، عملية كظم الغيظ، عملية
السيطرة على الأعصاب هذه اسمها تحلّم، لكن، لو سألت نفسك لماذا كظمت غيظي؟ فتجيب
نفسك بنفسك: حبًا بالله، تقربًا إليه، تنفيذًا لأمر نبيه، ومرة مع مرة مع مرة
ستشعر أنَّ الله -عز وجل- راضٍ عنك، إذ عاهدته على الحلم أو أن تتحلم.
وبعد،
من خلال اتصالك بالله -عز وجل- تدرك أن مكارم الأخلاق مخزونةٌ عِندَ الله تعالى،
فإذا أحبَّ الله عبدًا منحه خُلُقًا حسنًا.
هناك
حُلُم تطبع وحُلُم طبع، حُلُم التطبع هو التحلّم، عملية كظم غيظ، عملية ضبط
الأعصاب، رغم الغليان من الداخل، ومع هذا الواقع المر فورًا أقول كما قال -عليه
الصلاة والسلام: روي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: «إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه،
ومن يتوق الشر يوقه، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا؛ من تكهن أو استقسم أو رجع من
سفر من طيرة».
يعني:
خُلُق الحلم الأصيل بدايته تكون بالتحلّم، تحلمت أول مرة والثانية والثالثة
والرابعة والخامسة، فمن تراكم هذه المواقف البطولية، يكون الحلم لأنه: ليس الذي
يقطع الطرق البطل إنما الذي يتقي الله البطل.
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ
الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ».
وعَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِأمْرَأَةٍ تَبْكِي
عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي»
قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ
فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ فَأَتَتْ بَابَ
النَّبِيِّ ﷺ
فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»
صحيح البخاري.
منذ
أيام توفي رجل، فدخل أحد ذويه وتكلّم كلمات بحق الله لا تليق، بعد نصف ساعة استعاد
توازنه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، رسب في الامتحان، أجل، رسب في الامتحان،
ليقُلّ: لا حول ولا قوة إلا بالله ألف مرة، ليقل: سبحان الله يا رب لك الحمد، كله
كلام لا طائل تحته الآن، إنما الصبر عند الصدمة الأولى، حين يتلقى الخبر ماذا
يقول؟ يا رب لك الحمد، فهذا نجح مائة على مائة لأن الحمد علم، تعرف أن الله حكيم،
وأن أفعاله كلها كمال وكلها عدل وكلها رحمة، إذًا إنما الحلم بالتحلم، يعني: إن
تملك أعصابك مرات متتابعة فموقف كله تصنع، وهو موقف تكلّف، هذا الحِلم المتكلّف هو
حِلم المبتدئين، لكن والله الذي لا إله إلا هو بعد أن تكابد مواقف التحلم وتقبل
على الله -عز وجل- مكابدةً، يصطبغ قلبك ببعض أسماء الله الحسنى ومنها الحِلم،
ويصير حِلمكَ طبعًا، لو شققت صدر إنسان مؤمن متفوق رأيت في قلبه بردًا وسلامًا،
أحد الصحابة استفزّه شخص، وقسا معه بالكلمات، قال: إن كنت صادقًا فيما تقول غفر
الله لي، وإن كنت غير ذلك غفر الله لك، كم من رجل دمّر مستقبله في ساعة غضب، طلّق
زوجته وله منها خمسة أولاد، وفي ساعة غضب ارتكب جريمة.
أعرف
رجلًا عنده أجير، حدث بينهما خِلاف فطرده، وفي المستودع بضاعة غير نظامية، فاشتكى
عليه، جاء المسئولون عن البضاعة غير النظامية وكتبوا مخالفة كلفته، والحادثة وقعت
سنة ١٩٧٠م،
ستمائة ألف تقدر بستة ملايين في أيامنا هذه، وهذا الرجل لديه مسدس، فأطلق النار
فأصاب الأجير، حكموه ثلاثين سنة سجنًا، كانت ساعة غضب، فهذه القضايا خطيرة جدًا،
كم من بيوت دُمِرَت، وأُسَر تَشَتت، وشركة ناجحة جدًا انتهت بددًا في ساعة غضب
جراء كلمة من أحد الشريكين.
وفي
ساعة غضب قد يرتكب الإنسان حماقة كبيرة، أما الحليم في بحر الأمان سلام داخله سلام
خارجه أمره سلام، فلو شققت صدر مؤمن يتمتع بالحلم لرأيت في قلبه بردًا وسلامًا.
سمعت
عن زوجٍ، زوجته جاهلة بأحكام الدين، وقفت عند بائع، من كلمة إلى كلمة، قالت: راعنا
نحن جيرانك، ولعل الكلمة من الخضوع بالقول ففهم شيئا آخر من الكلام، فهم أنه ممكن
أن يزورها بالبيت، فدخل إلى البيت ساعة غياب الزوج، فاستنجدت بزوجها عن طريق ابنها
الصغير الذي قال له: عندنا رجل في البيت يا أبي، جاء زوجها بحالة غضب شديد، أغلق
الباب وجاء بالشرطة، وفضح زوجته وطلّقها، ثم استفتاني يريد أن يردها ما الطريقة؟
لقد ارتكب حماقة كبيرة جدًا فقد أخطأت الزوجة لكنها بريئة، ولكن خطأك كان أفدح
وأشنع. فأين أنت من حادثة الإفك وموقف رسول الله ﷺ؟
والنبي علمنا لما سمع الخبر المؤلم وقذف السيدة عائشة وكيف بقي شهرًا في أشد حالات
الحلم وضبط الأعصاب، هذه السيرة كلها دروس فإذا كان الرجل غير حليم يصبح
كالمتفجرات، يفجر نفسه: "إنما الحلم بالتحلم، وإنما الكرم بالتكرم وإنما
العلم بالتعلم".
تتحلم
تتصنع الحلم تجعل نفسك حليمًا تتكلف الحلم، تضغط على نفسك تكظم غيظك فتحدث لك صِله
بالله حقيقية، أنت تجاهد نفسك: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد
النفس والهوى
تُقبل
على الله -عز وجل- تصطبغ هذه النفس بأحد أسماء الله الحسنى وهو اسم الحليم ثم تصبح
حليمًا أصيلًا، حقيقةً، ويزينك الحِلم قلبًا وقالبًا، ماذا قال الله:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: ٤٥]. أول الأمر صبر،
وبعده صلاة، والصلاة تأتي بخير ثم يأتي منها الحلم والرحمة والإنصاف.
النبي
الكريم في الخندق ومعه ثلاثة آلاف صحابي أجلاّء، والظرف الطبيعي برد شديد وخوف
وجوع وما اجتمع في الجزيرة من قبل جيش يُعدّ عشرة آلاف مقاتل أبدًا، جاء ليستأصل
المسلمين من جذورهم، ومع ذلك كان النبي مع أصحابه في الخندق يحفرون ويتمترسون، وقد
أصابهم جوع شديد، فقام صحابي جليل بلغ منه الجوع ما بلغ واستأذن النبي ﷺ وذهب إلى البيت
فهيأ طعامًا لرسول الله، من حبهم الشديد للنبي ما كان أحدهم يستسيغ أن يأكل لقمة
وحده، ثم دعا النبي بقدر فيه شاة مذبوحة، وخبز من شعير مطحون، فماذا فعل النبي؟
أيمكن أن يأكل النبي وحده مع نفر قليل من أصحابه، ويدع بقية أصحابه جوعى؟ أبدًا
لا. وقال للجيش كله: إن أخاكم فلانًا يدعوكم إلى طعام، فهذا الصحابي ذاب كالشمعة
خجلًا، أي طعام هذا لقد هيأ طعامًا لثلاثة نفر أو أربعة، وهناك آلاف، فالنبي ما
كان له أن يفعل إلا ما فعل، لأنه رحيم بالناس، وهو كما وصفه الله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ١٢٨]،
لكن بعصر النفاق تجد مواقف ذكية جدًا فترى بعض الناس يتصنع الرحمة، ويتصنع الحلم.
فمثلًا ذات ليلة واحدة من اليالي قطع تيار الكهرباء في مدينة بأمريكا، فارتُكبت
مائتا الف سرقة بليلة واحدة، مع كل هذا الانضباط الخارجي، لذلك عظمة الدين أنه
يَخلِق في الإنسان وازعًا بينما القانون يَخلِق رادعًا، القانون دائمًا ردعه خارجي
ما دامت الطريق مراقبة، وفيها رادار، فالسرعة محدودة بثمانين كيلو متر في الساعة،
وإذا خلت الطرقات من الرادار فالسرعة تزيد عن المئة وعشرين، ما دامت الصالة مراقبة
تلفزيونيًا لا يسرق أحد شيئا وإلا فالسرقة شريعة القوم، فهذا القانون لا يستطيع إن
أن يفعل في الإنسان إلا فعل الرادع، أما الدين ففيه وازع داخلي يرقى بالإنسان
رقيًا إلى مرتبة الملائكة.
كنت
منذ يومين في حفل عيد مولد ألقيت فيه كلمة بدئت كما يلي: سيدنا عبد الله بن عمر
رأى راعيًا، أحب أن يمتحنه قال له: بِعني هذه الشاة وخُذ ثمنها، قال: ليست لي،
قال: قل لصاحبها ماتت، قال: ليست لي، قال: خذ ثمنها وقل له أكلها الذئب، قال: ليست
لي. ولما ضاق هذا الراعي ذرعًا بالطلبات؛ قال: والله إني لفي أشد الحاجة إلى
ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين ولكن يا
هذا أين الله؟ هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين.
لعلي
الآن لا أرى مؤمنًا يقول أين الله، لا في بيعه ولا في شرائه، ولا في حديثه ولا في
وصفه وفي مدحه، ما دامت البضاعة كاسدة يمدحها ليبيعها، فماذا قال -عليه الصلاة
والسلام-: أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ: «إن أطيب الكسب كسب التجار، الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا
وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم
يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا».
روي
أن إبراهيم -عليه السلام- رأى رجلًا مشتغلًا بمعصية، فقال: اللهم أهلكه، فأوحى
الله إلى إبراهيم أن يا إبراهيم لو أهلكنا كل عبد عصى لما بقي إلا القليل، ولكن
إذا عصى أمهلناه، فإن تاب قبلناه فإن أصر أخّرنا العقاب عنه لعلمنا بأنه لا يخرج
عن ملكنا.
هذا
الصحابي الذي جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- وأسلم وعاد إلى قومه وأقنع أمه
وأباه وزوجه أن يسلموا وأسلموا، فلما اتجه إلى قومه رآهم غارقين في الزنى، فعاد
إلى النبي وقال: يا رسول الله ادع الله عليهم أن يهلكهم، قال ما معناه: لا يا أخي
بل أدعو الله أن يغفر لهم وأن يرحمهم فالنبي ما كان لعّانًا.
طبعًا
لو تُرك الأمر إلى الناس لأهَلَكَ بعضهم بعضًا ولكن الله يرحم.
يُروى
أن شابًا كثير الذنوب ولكنه ما كان من المصريّن، بل كان يتوب ثم يرجع إلى الذنب
فلما كثر ذلك منه قال الشيطان: إلى متى تتوب وتعود وأراد أن يُقنِطَهُ من رحمة
الله، فلما جاء الليل قام وتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع بصره إلى السماء وقال: يا من
عصمت المعصومين، ويا من حفظت المحفوظين، ويا من أصلحت الصالحين إن عصمتني تجدني
معصومًا، وإن أهملتني تجدني مخذولًا، ناصيتي بيدك وديوني بين يديك، يا مقلّب
القلوب ثبت قلبي على دينك، فقال الله سبحانه وتعالى، للملائكة: «يا ملائكتي أما
سمعتم قوله، اشهدوا أني قد غفرت له ما مضى من ذنوبه». فهذه الواقعة لها في القرآن
ما يؤيدها؟
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: ٥٣]، {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ
الْجَاهِلِينَ} [يوسف: ٣٣]، وموقف سيدنا يوسف، فيه من التواضع وصدق
العبودية لله عزّ وجل، ما يشْدَه العقول: نبيٌ عظيم، قال: {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ
وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ}.
مرةً
زارني أخ شاب أحبه، وكان شابًا مندفعًا وتائبًا، حينما دخل بيتي أجهش بالبكاء، قلت
خيرًا، قال: أمد بصري مدًا وأحدق بالنساء، قلت تُب إلى الله، قال: تُبتُ كثيرًا،
كلما تُبت نقضتُ التوبة، قلت: أعوذ بالله، فلمع في خاطري أنه حينما تاب إلى الله
من قبل توبةً أولى واستقام على أمره شَعَرَ باعتداد واعتزاز فصار يقيِّم الناس،
كلما رأى رجلًا من أقربائه ينظر يتهمه بالفسوق والكفر والفجور، بينما يرى نفسه أنه
مستقيم وبدأ يوزع على الناس القابًا، فربنا -عز وجل- أدبه، أضعف له مقاومته، إلى
أن أصبح على أعتاب الله ذليلًا وعرف أنه ضعيف بنفسه، ولعله نسي أنه لا قوة لا له
ولا لأحد إلا بالله، وغابت عنه الآية الأساسية بالفاتحة وهي أهم ما فيها وهي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
[الفاتحة: ٥] فلعله قال مدركًا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}
ولم يقل بنفس الدرجة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
فلذلك الافتقار إلى الله عز وجل هو المعين.
وذَكَرَ
مالك بن دينار أنه كان له جار وكان يتعاطى من الفواحش الكثير، وكان لأبي حنيفة جار
مغنٍ، وهو تارك الصلاة ويشرب الخمر ويلهو بالغناء يومه كله، وكانت أغنيته المفضلة:
أضاعوني وأي فتًى أضاعوا ليوم كريهة وطعان خلس.
فهذا
المغني ملأ الحي صخبًا وضجيجًا وآذى الجيران، وذات ليلة لم يسمع صوته، فسال عنه،
قالوا: أُلقيَ القبضُ عليه، بِتُهمةٍ لا علاقة لها بالغناء ولا بالخمر بِتُهمةٍ
أخرى متعلّقة بالمحتسب، فأبو حنيفة النعمان بقدره العظيم وشأنه الجليل توجه إلى
المحتسب رجاء أن يعفو عنه، المحتسب لم يتوقع أن يأتي أبو حنيفة بذاته، فإكرامًا له
أفرج عنه وعن كل من القي عليه القبض في ذاك اليوم، فساقه أبو حنيفة من يده قائلًا:
يا فتى هل أضعناك، تقول: أضاعوني وأي فتًى أضاعوا. وكان هذا الموقف سبب إسلامه
وسبب توبته، فإذا حلمت على رجل عاصٍ فقد يكون حلمك سبب توبته، أما إذا كفّرته
وفسقّته ولعنته وسببته فقد يكون هذا الموقف سببًا لاستطالته في فجورِهِ، والنبي لم
يبعث لعانًا حتى نلعن الناس، ولسنا قضاة لنحاسب الناس، ولكننا دعاة إلى الله -عز
وجل.
عزيزي
القارئ إن الحِلم حارس أمين يحول دون حماقات كبيرة جدًا قد تتردى فيها وتكون
عاقبتها مدمرة والعكس صحيح إذ قد يكون والحِلم سببًا لتكون هاديًا وداعيًا إلى
الله سبحانه، والحِلم محبوب، إذ كاد الحليم أن يكون نبيًا، والحلم سيد الأخلاق.
بالحِلم
تتبوّأ أسمى المكانة في قلوب الناس، فلهذا قال مالك بن دينار: كان لي جار يتعاطى
من الفواحش الكثير وجيرانه يتأذون منه ويمقتونه، فشكوا منه إلى، فأحضرناه ونصحته
إما أن تتوب وإما أن يرحل من المحلة، فأبى أن يفعل واحدًا منهما، فقلنا: نشكوك إلى
السلطان فقال: السلطان يعرفني، فقلنا: ندعو الله عليك، فقال: الله أرحم بي منكم.
فغاظني ذلك فلما أمسيت قمت وصليت ودعوت عليه، قال: فوقع في قلبي هاتف، لا تدع
عليه، بل ادع له بالتوفيق. يبدو أن هذا الشاب تاب توبةً نصوحًا وعاد إلى الله
واتفق أن رآه مالك في موسم الحج يطوف ويبكي.
ومرة
أخرى وواقعة أخرى شبيهه يقول مالك بن دينار: بينما هو ماشٍ في الطريق رأى رجلًا
مخمورًا طرحته الخمرة أرضًا والزبد على شفتيه ويقول: الله، الله، وهو في حالة
هذيان، فعظم على هذا الإمام الكبير أن يخرج هذا الاسم العظيم من فمٍ نجس،
فتَلَطّفَ معه ومسح فمه وأكرمه رغم سكره، وبعد أن صحا قيل له: أتدري من اعتنى بك
واهتم بحالك؟ إنه الإمام مالك. ويبدو أن هذه العناية اللطيفة بهذا العاصي أثارت
حساسية نفسه، فبكى تأثرًا وندمًا، وبالمناسبة فالعصاة أكثرهم فيم رقة تستجيش
نفوسهم بالبكاء، ونام الإمام مالك ليلته تلك فسمع في منامه صوتًا يخاطبه: يا مالك
طهّرت فمه من أجلنا فطهّرنا قلبه من أجلك، وخرج مالك إلى المسجد فرأى رجلًا يبكي
ويصلي ويتهجد قال: من أنت يرحمك الله، قال: إن الذي هداني أخبرك بحالي.
أقول
لك عزيزي القارئ: إنك لا تعرف عمق شعور المؤمن الصادق إذا استطاع أن يهدي رجلًا
ضائعًا منحرفًا شارب خمر مُلحِدًا، ويعتقد بأن الله ليس عادلًا ناقمًا، فإذا قدرت
أن تُقنع إنسانًا بعيدًا وتروِّضَه على طاعة الله، وتروِّضَه شيئا فشيئًا إلى أن
يستقيم على الطريق الصحيحة فهذا عمل بطولي، بل إنك أنت البطل.
أحد
العلماء قال لتلميذه كلمة ذات معنى إيجابي دقيق جدًا، قال: "يا بني الشخص
الصالح الجيد لا يحتاجك في موعظة، وإنما يحتاجك السيّء المنحرف" بطولتك ليست
مع الصالحين ولكن بطولتك مع المنحرف ومع العاصي وهذا كله يحتاج إلى حِلم تتحلى به فالمنحرف
يحتاج إلى صدر واسع وإلى رحمة الناس به لترده إلى الصواب، وتلك البغي التي رأت
كلبًا يلهث ويأكل الثرى من العطش سقته فغفر الله لها، نموذج للعودة إلى الله
والعمل الصالح حتى ولو كان مع حيوان بهيم. قال تعالى، على لسان سيدنا إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}
[الشعراء: ٨٣]، فأجاب الله دعاءه بقوله: فبشّرناه بغلامٍ حليم، والعلماء قالوا هذه
الخلاصة: "الحليم من كان صفّاحًا عن الذنوب ستارًا للعيوب"، الحليم هو
الذي غَفَرَ بعدما ستر، الحليم يحفظ الوِدّ ويُحسِنُ العَهد، ويُنجِزُ الوعد،
الحليم يُسبِل سِتَرَ عفوهِ على العُصاة ويسحب ذيلَ عفوهِ على الفُجّار، الحليم
الذي لا يستخفّهُ عصيانُ عاصِ ولا يستفزّهُ طُغيانُ طاغٍ.
المؤمن
الصادق إن رأى عاصيًا، يرأف ويحنو ولا يتكبر، ويحدث نفسه: لعل هذا العاصي يتوب
توبةً نصوحًا ويَصدُق مع الله أكثر مني فيسبقني، لا تحتقرنَّ عاصيًا ادعُ له
بالهِداية، وتلطف معه والطف به وما أمر وحشيٍّ عنك بخافٍ فقد فعل ما فعل، ولما رجع
إلى الله تاب عليه.
وكذلك
سهيل بن عمرو الذي تمنى سيدنا عمر أن يضرب عنقه بالسيف، حين قال له النبي اكتب:
هذا ما اتفقَ عليه محمد رسول الله، قال: لا أكتب "رسول الله" لو آمنا بك
لما خالفناك، قل محمد بن عبد الله، كان في منتهى الغِلظة والقسوة، وسيدنا عمر همَّ
أن يقتله، قال -عليه الصلاة والسلام-: يا عمر لعلك ذات يومٍ تسمع منه كلامًا تحمده
عليه، والحقيقة قال كلامًا بعد موت النبي يُكتب بماء الذهب.
دخل
عمير بن وهب على رسول الله والخنزير أحب إليه منه وخرج من عنده وهو أحب إليه من
بعض أولاده.
نضرع
إلى الله -عزّ وجل- أن يرزُقُنا الحِلم. فهو زين، ونحن نتعلم أسماء الله الحسنى
أملًا في أن نتخلّقَ بِها، عملًا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «تخلقوا بأخلاق الله».
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
مواضيع ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق