404
نعتذر , لا نستطيع ايجاد الصفحة المطلوبة

شرح اسم الله (الخافض الرافع)

أسماء الله الحسنى
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
شرح - اسم - الله - الخافض - الرافع
شرح اسم الله (الخافض الرافع)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللّهم لا علم لنا إلاّ ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم، اللّهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصّالحين.
أيّها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث والأربعين من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم اليوم، من أسماء الله الحُسنى الخافض الرافع.
الخفض في اللغة ضد الرفع، والخفض الانكسار واللِّين قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤].
والانخفاض: الانحطاط، وتوصف به الواقعة قال تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ [الواقعة: ١-٣].
الناس يتمايزون بِمقاييس أرضية، مقاييس المال، القوة، والذكاء، وتحصيل العلم، والوجاهة، وغيرها من الأمور، فإذا وقعت الواقعة، تبدَّلت هذه المقاييس، وتحكّمت في الخلق مقاييس رب العالمين، يُقاس الإنسان بعد الموت بِقدر اِستقامته وطاعته لله -عز وجل - وإحسانه للخلق. فلذلك تنقلب المقاييس فجأةً، فالذي كان في القمم ربما صار في الحضيض، والذي كان في الحضيض ربما صار في القمم.
الخفض من صفات الواقعة، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة. أي أن الواقعة تخفض أقوامًا بِمعاصيهم فَيَصيرون إلى النار، وترفع أقوامًا بطاعاتهم فيدخلون الجنة.
أيها الإخوة:
مادة الخفض وردت في القرآن في سورة الحجر، قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٨٨]
ووردت في سورة الشعراء قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾ [الشعراء: ٢١٥].
هذا الفرق بين الآيتين هل يفيد معنى ثالثًا؟ واخفض جناحك لِمن اتبعك من المؤمنين وقوله: واخفض جناحك للمؤمنين؛ فالإنسان يميل إلى جماعته وإلى أتباعه؛ فإذا مال إليهم، وتعصَّب لهم، وأنكر من سِواهم، واِنحاز اِنحيازًا أعمى إلى من يلوذ به، فهذه نقيصة في الإنسان. فالله - سبحانه وتعالى - أمر نبيَّه أن يخفض جناحه تارةً لِمن اِتبعه، وتارةً لكل المؤمنين. أما نحن فما علاقتنا بِهاتين الآيتين؟ يجب أن تحب إخوانك في المسجد، وإذا كنت مؤمنًا حقًا فيجب أن تحب كل مؤمن في الأرض، من أيّة جهة كان، وهذا هو الإيمان وهو الذي يليق بالمؤمن.
إذًا مادة الخفض وردت في قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
ووردت في سورة الإسراء: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا
ووردت في سورة الشعراء قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
ابن الأثير يرى: أن الخافض هو الذي يخفض الجبّارين والفراعنة أيْ: يضعهم ويهينهم، ويخفض كل شيء يريد خفضه - الآن دخلنا في موضوع جديد - الإنسان له كيان مادي له جسم، وله كيان معنوي، الكيان المعنوي يرتفع وينخفض. فَمَثلًا إذا نجح الإنسان، ونال شهادةً عُلياَ، يرتفع مقامه بين الناس. وإذا رسَب، ينخفض. وإذا نجح في عمله، يرتفع. وإذا أخفق، انخفض. وإذا نجح في زواجه، ارتفع. وإذا أخفق، ينخفض، وإذا ظهر صدقه للناس، يعْتَز بِأخلاقه، فإذا ظهر كذبه، ينكمش. وإذا كُشِفت أسراره البيتية ولم تكن على ما يُرام، ينخفِض. فالإنسان بين أن يرتفِع وبين أن ينخفض. لكن صدِّقوا أن الإنسان حينما يرتَفِع بالحق يدخل على قلبه من السرور ما لا يوصف.
النجاح مُسعِد في كل شيء. وحينما ينخَفِض ويُكشَف كذبهُ، ويُفْتَضَح في بيته، وتظهر عدم كفاءته، أو حينما يسيء الاختيار، وينال عِقابًا نظير عمله السيئ ويصبح قِصةً بين الناس، ينكمش وينخفِض. وقد يأتي على هذا الإنسان من الآلام مالا يوصف لذلك الإنسان أكثر ما يعيش بِسُمْعَتِه. بل إن العرب حينما ذكروا العِرض، عرَّفوه بأنه مَوْضِع المدح والذم في الإنسان. قد تكون فقيرًا لكنك تقيٌّ مرفوع الرأس. قد يكون مريضًا ولكن نظيف الكَفَّين، لا يوجد بِحياته اِنحراف، ولا دَجَل ولا تطاول، ولا يخاف لا لأنه من جِنسٍ آخر وإنما هو من البشر لكن لا يخاف لأنه مستقيم، وما فعل شيئًا خِلاف شرع الله، ولا خِلاف القانون، لذلك أحدُ أسباب العِزة الإحسان وقال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [يونس: ٢٦].
إذا أنت أتقنت عَمَلَك، وأدَّيْت وظيفتك على خير وجهٍ، تشعرُ بِعِزة الإنجاز وعزة الاتقان والتفوُّق. أما إذا أدَّيت عملك بغير اتقان، وكان عملك سيِّئًا وغير مدروس، ويحمل أخطاءً كثيرة، واِكتُشِفت الأخطاء عاتبك الناس، كَمَثَل الذي وَصَف دواءً لِطِفلٍ صغير أوْدى بِحياته، ولما وُوجِه هذا الذي صنع الدواء صار صغيرًا ومنكمِشًا، ويتمنى أن تنشقَّ الأرض وتَبْتلَعَه -كما يقول العوام -فالإنسان يَعْتز حينما يُتقِن عمله، ويُؤدي واجِباته، وحينما يكون واضحًا، وتكون سريرَته كَعَلانيَتِه، وخلْوتُه كَجَلْوَتِه، وحياته الخارجية كَحَياته الداخلية، وأسراره كَحَياتِه المُعْلَنة، فالوُضوح يرفع الإنسان.
وتشعُر هذا من الواقع حيث يجد الإنسان في بعض الأحيان اِنقباضًا من جراء عَمَلٍ أو كلام بذيء فلما اِنكشف الغطاء وجد حاله قد اِنكمش وما من إنسان إلا ويتمنى أن يرتَفِع. لا أقول الكِبَرْ؛ وإنما اتقان العمَل يجعلك عزيزًا، فَصِدقك وأمانتك يجعلانك عزيزًا، أحيانًا يأتي تَفْتيش مفاجئ على مَحَلِّك ومعملك - المواد الأولية كلها صحيحة وبمواصفات جيدة لا يجدون شيئًا مخالفًا، فيكون الأمر كله على التَّمام، فَتَشعُر بِعِزة ونشْوَة، فكل إنسان يبحث عن شيءٍ اسمه الرِّفْعة.
والله أيها الإخوة، لو أننا أيقَنا أن رِفْعتنا بطاعة الله، وباِستقامتنا. واِنضباطنا لاستقامتنا في حياتنا، إنسان يحْتل منصِبًا رفيعًا لكنه جَلَب أبقارًا مصابة بمرض عضال وسَبَّب حالات مرضية شديدة: فهذا لما كشف أمره للسجن مُكَبَّل اليدين وأُدخل قصر العَدْل لِينال جزاءه العادل، فهذه المكانة التي كانت لهذا الشخص اِنخفضت، لذلك الذل لا يُحتَمل وكذا الإهانة والانكماش أتساءل أحيانًا إن هذا الذي يأكل مالًا حرامًا، ويَغُشُّ المسلمين في غِذائهم، وهذا الذي يستَوْرِد لُحومًا للكلاب ويَبيعَها للبشر، وهذا الذي يضع أصبِغة البِلاط في سكا كر الأطفال، وفي المواد الغِذائية فَماذا يلاقي هذا الذي يُكْشَف اختِلاسُه؟ سَيَنْعَدِم ويصير لا شيء.
شعور الإنسان بالاستقامة والرِّفعة والنظافة والخلْفِيات الواضحة هذا شعور لا يوصَف؛ وهو شعورٌ يَرْقى بالإنسان وما منا واحد إلا ويتمنى أن يكون أمام الناس نظيفًا، ورافِع الرأس. فالخافض في أسماء الله كما يقول ابن الأثير: " هو الذي يضع الجبارين والطغاة ويُهِينُهم " وسُبحان من قهر عِباده بِالموت. الله - عزّ وجل - يخفِض الجبابرة، وكقاعدة عامة أقول: الإنسان إذا كان صُعوده سريعًا وحادًا فسَيَكون انخِفاضه مُريعًا، الإنسان إذا تكبِّر بِغير الحق وصعد صعودًا حادًا ومُفاجِئًا، فالله - جل جلاله - يجعله عِبرة لكل من اِعتبر، ويَخْفِضه ويذِله ويهينه؛ هناك عذاب شديد، وهناك عذاب مُهين. بِرَبِّكم هل يوجد منّا واحد يتمنى الفضيحة والذُل والإهانة؟ أقول لكم هذه الحقيقة وأتمنى أن تكون واضحة عندكم، أيّة خِيانة على الإطلاق، منذ خلق الله آدم وإلى يوم القِيامة، لابُدَّ من أن تُفْتَضح والدليل: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف: ٥٢].
والخائن حينما يُفْتَضح، لا يُفْتَضح بِذكاء البشَر بل بِتَقْدير خالق البشر. فإذا الإنسان أيْقن بأن الله لن يسمح لإنسان أن يغُشَّ الناس إلى أمدٍ طويل، ولا أن يغُشَّ مجموع الناس إلى أمَدٍ قصير، عِنْدئذٍ يستقيم على أمر الله؛ لأن الفضيحة، والانكشاف وسَرْدَ الأخبار غير المُريحة، هذا شيء لا يُطيقه الإنسان؛ لكن كيف عِلاجُه؟ لا تفعل شيئًا تستحي منه، ولا تفعل شيئًا تضطر أن تعتذِر منه، قبل أن تفعل شيئًا، فكِّر جيِّدًا، وتأمَّل ملِيًا، وعُدَّ للآلاف قبل أن تأخذ هذا المبلغ لعلك وقبل أن تدخل إلى هذا البيت، وليس في البيت إلا امرأة؛ سل نفسك لعلك تُسأل لماذا دخلْت البيت؟ وأنت تعلم أن الزوج غير موجود في هذا البيت.
فالإنسان حينما يتسرَّع ويتحرَّك بلا نور، وبلا منهج، وبلا أحكام شرعيَّة، يقع في شرِّ عمَلِه، وينخَفِض والله هو الذي يخفُضه؛ والله من أسمائه الخافض أحيانًا الإنسان يكون بأعلى درجة؛ ثم ينخفض أحد علماء المسلمين في أمريكا أحد أكبر القساوِسة. وهذا الرجل بعد حين، كُشِفت له فضيحة أخلاقية فَصار يبكي، فالإنسان حينما تُكتَشف عثراته وسقطاته، ينكمش وكأن الله خفضه. على كل حال هذا من الفطرة. مثَلًا لو فُقِد قَلَم غالي الثمن بالصَف، فَمَنَع المُدرِّس خروج الطلاب، وفَتَّش الطلاب واحدًا واحدًا؛ فإذا القلَم عند أحدهم، فَقَبل أن يُعاقبه، وقبل أن يضربه، وقبل أن يستَدعي والده، وقبل أن يفصِله ستة أيام، ماذا يشعر هذا الطفل؟ يشعر بِألم وخِزي، فَشُعور الخِزي والعار لا يُحِتَمل عِلاجُه أن تستقيم، وأن تعمل عملًا لا تستحي منه.
مرةً سألوا ألف زوجٍ؛ لماذا لا تخون زوجتك؟ فجاءت الإجابات كثيرة جدًا ومتنوِّعة. صُنِّفت هذه الإجابات في زمرٍ أخلاقية، وكان إجابة أخفض صِنْفٍ: لا أستطيع لأنها تعمل معه وإجابة الذي أعلى منه: لا أحتمل الإحساس بالخِيانة، الإحساس بِالخِيانة ضاغِط، والأرقى: لا أحب الخِيانة، وواحد يحبها ولكن لا يحتمل وخز الضمير، الأول لا يحب الخِيانة والأخير لا يستطيع أن يخون زوجته فعندما يتحرك الإنسان حركة واضحة ونظيفة، يشعر بِراحة، وهذه الراحة لا تُقَدَّر بِثَمنٍ. قد تجد شخصًا يلبس أغلى الأثواب، ويركب أجمل المَرْكبات، ويسكن في أفْسَح القصور والبيوت، ومع ذلك فهو من داخله مُنهار؛ لأن نفسه تُحاسِبه حِسابًا عسيرًا. يعاني الانقِباض، والكآبة، والشعور بالذم ومُرَكَّب النقص وهذا كله من الأعمال الخسيسة والدنيئة التي لا تُرضي الله. ففطرة الإنسان مُوَلَّفَة - بالتعبير الفني - مع الإيمان فإن حادَ عن الإيمان وعن منهج الله عذَّبتْه فطرته، مثَلًا: مرْكبة حديثه جدًا مُصمَّمة للزفت، لو ركِبتها في الوَعْر، وفي طرق جبلية فيها وهداة ومنعرجات وفيها أتربة ورمل، تشعر بِتَعَبٍ شديد وبِقَلَقٍ، وتشعر أن هذه المركبة ليست لهذا الطريق. ونفسك البشرية مصممة لمنهج الله، ومصممة لتكون على مستوى الشرع؛ فإذا حِدت عن الشرع، تعثَّرت نفسك وشعرت بالكآبة والضيق وما إلى ذلك.
وقيل: الخافض الذي يخفض بالإذلال من تعاظم وتكبَّر، ضربت مثلًا فقلت: كيل اللبن يحتمل خمسة أكيال ماء ويصبح شرابًا لذيذًا ويهدئ النفس ويشعر الإنسان بِراحة بعد شربه، كيلو لبَن يتحمل خمسة أكيال ماء، ولا يتحمل نقطة نفْط واحدة أبدًا فهذه القطرة الواحدة تُفسِده أما خمسة كيلو ماء فتُطَيِّبُه، كذلك الإيمان: فذرَّة كِبَر واحدة تتناقض مع العبودية، من صفات المؤمنين الأساسية التواضع لله، ترى المؤمن عزيز إلى أقصى درجة ورافع الرأس إلى أقصى درجة؛ ولكنه أمام الله ذليل؛ ويُبالِغ في التذلل أمام عَتَبَة ربه، ويُبالغ في رفع رأسه شامِخًا أمام أعداء الله، لذلك وصْف الله المؤمنين في كتابه بقوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤]، بِقَدْر ما هو متواضع ومتذلل بينه وبين الله، يكون بينه وبين الخلق عزيز النفس.
الخافض: الذي يخفض بالإذلال من تَعاظَم وتكبَّر، وشمخ بِأنفِه وتجَبَّر، يخفضُ أقوامًا ويخفض الباطل:
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١].
لو أننا تتبعنا تاريخ النظريات الوضعية التي اِبتُدِعت خِلاف منهج الله، فهل نجد نظرية بقِيَت شامخة إلى ما لا نهاية؟ وهل هناك نظرية إلا ونزلت في الوَحْل وسقطت؟ ولاكَتْها الألسن؟ وخاضت فيها الأقلام؟ والأدلة أمامنا كثيرة، والتاريخ الذي بين أيدينا، سبعون عامًا في اِعتزاز بالباطل، واِعتزاز بالإلحاد، ثم أصبح هذا الإلحاد خُرافَةً، وأصبح المجتمع المُلحِد في مؤخرة الشعوب على الإطلاق:
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾.
فالله - عز وجل - من أسمائه الخافض، فهو الذي يخفض بالإذلال من تعاظم وتكبَّر، وشمخ بِأنفِه وتجَبَّر، العَرَب في الأندلس أسَّسوا أكبر حضارة بالعالم؛ فلما اِلتفتوا إلى القِيان وشرِبوا الخمور، واِستمعوا إلى المعازف، ومالوا إلى اللهو والتَّرَف، أُخرجوا من هذه البلاد وكان آخر ملوكهم يبكي، وهو يخرج من قصرِه في قُرطبة قالت له أمه عائشة: ابكِ مثلَ النساء مُلكًا مُضاعًا لم تُحافظ عليه مثل الرجال. فالله يخفض العصاة المتكبرين والمتجبرين.
وقيل الخافض: الواضع لِمن عصاه، والمُذِل لِمن غضِب عليه، ومُسْقِط الدرجات لِمن يستَحِق ذلك. يَخْفِض الكفار بالإشقاء، ويخفض أعداءه بالإبعاد، عدوٌ يخفِضه، ومتجبر يخفض وطاغِيَة يخفض ومستعلٍ يخفض، ويقول: أنا، ونَحن، ولِي، وعِندي، أربع كلمات مهلِكات، قال تعالى عن إبليس: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [ص: ٧٥] فأهلكه الله، ﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل: ٣٣]، قالها قوم بَلْقيس فأذلهم الله عز وجل.
﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ [الزخرف: ٥١] قالها فِرعون فَغَرِق: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: ٧٨].
قالها قارون فَدَمَّره الله - عز وجل - فالله خافض يخفض أعداءه، ويخفض المتجبرين، ويخفض الطغاة، ويخفض الظالمين، ويخفض الباطل كَفِكْرة وتسقط، وتُصبح في الوَحْل ولا يعتَدُّ بها أحد، ولا يُلقي لها بالًا، بعد أن كانت متألِّقة، يخفض الكفار بالإسقاط وأعداءه بالإبعاد والذل.
وقيل: هو الذي خفض أهل الكفر بِعِزِّه، وخفض أهل الكِبْر بِجلاله، وخفض أهل الزور بِإظهار تكذيبهم، والكاذب لابُدَّ من أن يفضحه الله؛ وحينما يفضحه، ينسى الحليب الذي رضعه من أُمِّه. والكذب شرب ولا سيما الكذب في البيع والشراء، تجد الكاذب يُقسِم بالأيمان المُغلَّظة، أن كُلفة هذه البضاعة يفوق هذا السِّعر، ثم تُكشَف الأوراق فإذا رأس ماله قليل جدًا، وقد أقسم أيمانًا كاذبة؛ فهذا الإنسان سَقَط، سقط من عَيْن أهل الفضل والكمال.
ويخفض الله - عز وجل - كل خارجٍ عن شريعته مهما كان غنِيًا بالمال، أو عزيزًا بين الرِّجال. وقد ذكر العلماء أن الله الخافض يخفض من قَصُرت مُشاهداته على المحسوسات، يعني: ما آمن بالغيب، وإنما آمن بالأشياء المادية، والذي يراه بعينه يؤمن به، أما الآخرة فما رآها ولذلك هو يُنكِرها، وكذلك عِقاب الله ما رآه فأنكره. فقال: يخفض من قَصُرت مُشاهداته على المحسوسات، وقصَر هِمَّته على ما تفعله البهائم من شراب وأكل ونكاح، وقد خفضه إلى أسفل سافلين، ولا يفعل ذلك إلا الله - رب العالمين - فهو الخافض والرافع.
أنت كمُؤمن، ما حظك من هذا الاسم؟ قال: من أراد أن ينال حظًا من اسم الخافض فَعَليه أن يخفض نفسه قبل أن يخفِضه الله، اِخفِضها طواعيةً لله وتواضعًا لله،
انظر إلى الأكحال وهي حجارة لانَت فصار مَقَرُّها في الأَعْيُن.
تواضع قبل أن يضعك الله، فالتواضع عِبادة والتكبر نقيض العِبادة؛ لذلك من أراد أن ينال حظًا من هذا الاسم فَعَليْه أن يخفض نفسه بالتواضع، فَيَراها أقل من جميع العباد، وهذا رسول الله وقد دخل عليه رجل فارتعدت مفاصله فهوَّن عليه: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ أمرأه تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» رواه ابن ماجه.
وكلما تواضعت، رفعك الله. وهذه علاقة عكسية فكلما تكبِّرت، خفضَك الله، والعالم الحقيقي متواضِع، والإنسان الذي يُعتد به متواضع. لذلك ورد في الحديث القدسي: «أحب ثلاثًا وحبي لِثلاث أشد: أحب الطائعين وحبي للشاب الطائع أشد. أحب المتواضعين وحبي للغني المتواضع أشد. أحب الكرماء وحبي للفقير الكريم أشد. وأبغض ثلاثًا وبغضي لِثلاثٍ أشد: أبغض العصاة وبغضي للشيخ العاصي أشد. أبغض المتكبرين وبغضي للفقير المتكبر أشد. أبغض البخلاء وبغضي للغني البخيل أشد»
فالسخاء حسن لكنه في الفقراء أحسن. والصبر حسن ولكنه في الفقراء أحسن. والورع حسن لكنه في العلماء أحسن. والعدل حسن لكنه في الأمراء أحسن. والحياء حسن لكنه في النساء أحسن. المرأة ألزم ما يلزمها الحياء، والعالِم يلزمه الوَرَع، والحاكم يلزمه العدْل، والغني يلزمه السخاء، والفقير يلزمه الصبر، والشباب تلزمه التوبة؛ وما من شيء أحب إلى الله من شابٍ تائب، ومتى سلِم العبد من شبهة الكِبْر فكل شيء بعد ذلك يزول ويهون.
«لو لم تُذنبوا لَخِفتُ عليكم ما هو أكبر» فما هو الذي أكبر من الذنب؟ العُجب، العُجب.
«ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر».
كلما نزلت متواضِعًا إلى الله، رفعك الله. أنا لا أعتَقد أن على وجه الأرض إنسانًا أشد تواضُعًا من رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كما أنني لا أعتقِد أنه يوجد من أعزه الله ورُفِع ذِكره وشأنه كَرَسول الله ، فَبِالقَدْر الذي تتواضع لله ترتفع إلى مراتب العُلو، ألم يقل الله عز وجل:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤].
فإذا ذُكِر الله الآن؛ ذُكِر معه رسول الله .
فالتطبيق الأول: أن تخفض نفسك بالتواضع، والتذلل، والانصِياع، ولِين الجانب، ولين العريكة، وأن ترى نفسك واحدًا من الناس، لا أن تراها فوقهم. كُن واحدًا منهم، تكن سيِّدهم. أما إذا جعلت نفسك فوقهم، يجعلونك في الحضيض. كُن واحدًا منهم وبِأخلاقك الفاضلة يرفعونك إلى الأوج. سيدنا عمر- رضي الله عنه - أراد أن يُعَيِّن واليًا فقال: أُريد رجلًا، إن كان أميرًا، بدا وكأنه واحد من قومه، وإن كان ليس بِأمير عليهم، بدا وكأنه أمير. غيرةً وحِرصًا على مصلحة قومه.
التطبيق الثاني: أخفِضْ إبليس بِعَدم الإصغاء لوسوسته. فإذا أصغى الإنسان إلى وسْوَسَة الشيطان يكون قد رفعه. أما إذا أعرض عنه، وسفَّه وسوسته، وابتعد عنه، ولعنه وأعرض عن كل ما يُلقيه في روعه يكون قد وضعه وانتصر على نفسه. فالتطبيق الثاني لاسم الخافض أن تخفِض إبليس وأعوانَه وكلَّ وسوسته، وألا تُعَظم أهل المعصية، وأن لا تحترِمهم احتِرامًا بالِغًا، فهل يجوز أن يشرب الخمر إنسانٌ وتستقبله وتُعانِقه، وتُرَحِّب به، وتثني على ذكائه وعِلمه وخِبرته، وتجعلُه في صدر المجلس، وهو تارك صلاة وشارب خَمْرٍ؛ بهذا تكون قد فعلت شيئًا لا يُرضي الله، ينبغي أن تُخْفِضه وأن تُشْعِره أنه عاصٍ لله – عز وجل - إلاّ في حالة واحدة وهي أن تتوقع منه الخير فَتَتَألف قلبه بِالتكريم.
فالإنسان مُقَصِّر لكنه فيه خير، ولا يكره الحق، وليس بعيدًا عن الحق، فَعَلي فرض أنه مقَصِّر ورَحَّبْت فيه دون أن تُشعِر الناس أنه على حق، فصار إكرامك هادِفًا ويسمى إكرام التأليف، وهو مسموح به بِشكل استثنائي. هذا وهناك التذلل والانخفاض للوالدين، قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤].
كتب اليوم لي أخ كريم في درس مسجد الطاووسية قِصة عن أحد أقرِبائه، وطلب مني أن أُلقِيَها على الناس لما فيها من العِبرة البالِغة؛ فقد كان له قريبٌ عاقٌ لِوالِديه، وجاء مرةً لأبنائه بالموز فقالت له ابنته: إن جدتي أكلت موزةً؛ فَمِن شدة بُخلِه دفع أمه من أول الدرج إلى آخره، وبَيَّنت له أمه أنها أكلت شيئًا فَضُل عن ابنته. وماتت بعد ذلك بِشهرين. وعندما وافاه الأجل َبَقِيَ ميِّتًا في بيته أربعة أشهر، دخلوا عليه بِالمُعَقِّمات وأصبحت الجرذان تأكله. شيء لا يوصف فالله أذله إذلالًا ليس بعده إذلال. فالإنسان ربما يكون عاقًا لِوالِديه ولِمن رباه، أو عاقًا لإنسان كبير في السن؛ وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه أبو داود.
من أدعية هذا الاسم: إلهي أنت الخافض للجبارين بِقَهرِك، المُذِلّ للمتكبرين بِجبَروتك، المُتعالي العلي الكبير، المتجلي بِنصرك، وأنت نِعم المولى ونِعم النصير.
ننتقل الآن إلى اسم: الرافع؛ فالجبابرة والطغاة والمتكبرون والظُلاَّم والعُتاة؛ هؤلاء يخفضهم الله - عز وجل - وأنت يا أخي الَمُؤمن اخفض نفسك تواضعًا لله، واخفض أهل المعصية والفجور واخفض الشيطان وأعوانه، هذا من عمل المؤمن قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التحريم: ٩].
أنت تخطئ عندما تحترم إنسانًا غارقًا بِالمعاصي أمام أولادك - الطفل بريء - ينظر أمام أبيه يُبَجِّل ويُكَرِّم أهل الفجور؛ فَبِهذا العمل كأنك أوْحيت لابنك أن هذه ليست معاصي، والدليل التكريم المبالغ به لهؤلاء، فَيَجب أن يكون لك موقف سليم.
الرفع يُقال تارةً في الأجسام الموضوعة إذا أعْلَيتها عن مقَرِّها نحو قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ [النساء: 154]، الشيء المادي إذا رفعته نقول فيه: رفع، وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: ٢].
ويُقال الرفع للبناء إذا طوَّلته قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧].
قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ﴾ [النور: ٣٦].
أن ترفع: أيْ: تعلو، وإذا عظَّمْتَ إنسانًا ونَوَّهْت بِفضائله وذكرت شمائله فيُقال: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ فالمعاني متعددة؛ معنى مادي: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ﴾.
وقوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ ومعنى الإطالة:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ﴾ ومعنى رِفعة الشأن والتنويه بالذِّكر:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ هذه في المنزلة. والنبي قال: «أَنزلوا الناس منازلهم».
فإذا استقبلت أخًا مؤمنًا، وأثنيت عليه فلا يوجد مانِع لهذا العمل من باب التشجيع له وتنويهًا بِفضْله. والإنسان المغرور والحسود هو الذي يُعَتّم على الآخرين. فإذا تفَوّق أخ مسلم ونال شهادة عليا فعليك أن تُنَوِّه به، وهذا له أيادٍ بيضاء، وخدمات جُلّى للمسلمين، ومتفَوِّق في اِختصاص مُعَيّن، هذا إذا عَرَّفت به، وذكرت فضائله، يكون من باب تأليف القلوب، النبي ذكر ذلك: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ ابْنُ جَبَلٍ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» رواه الترمذي.
وقال لِخالد: أنت سَيْف الله - وهذا في روايات عند البخاري وغيره - وقال: أنت يا أبا عُبيدة أمين هذه الأمة وأنت يا بن الزبير حَوارِيُّ هذه الأمة وأنت يا عمر لو كان نبي بعدي لَكنتَ أنت، وأنت يا أبا بكرٍ ما سُؤْتني قط، وما يوجد من صحابي إلا نوَّه النبي بِفضْله وبيَّن شأنه؛ لأنّ هذا من أخلاق النبوة. فإذا كان لأخٍ لك إنجاز جيِّد، وتأليف جيد؛ وَنَوَّهت بِفضْله؛ فسَيَشعرُ بِقيمَتِه عندك، وأنه محترم؛ وهذا الفِعل من فضائل المؤمنين، قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: ٣٢].
والله - جل جلاله - في كل كتابه الكريم لم يخاطب النبي باسمه قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ [التحريم: ٩]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ [المائدة: ٤١].
ما خاطب الله النبي إلا بِلَقَب النبوة أو الرسالة؛ لكن ذكر اسمه في الخبر، ففي الخبر " محمد رسول الله "، وفي الخطاب قال تعالى: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ١١٦].
وقال أيضًا: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي﴾ [الأعراف: ١٤٤].
وقال أيضًا: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: ١٢].
خاطب الأنبياء بِأسمائهم؛ لكن النبي ما خاطبه الله إلا بِألقاب النبوة والرسالة، وهذا تكريم من الله تعالى لِنَبِيّنا محمد ، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ١-٤].
لما عَرَجَ الله بالنبي إلى السماء، وأراه من آياته الكُبرى، فهذا أعلى رفْع للنبي، قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: ١٨].
والرافع: هو الذي يرفع الأولياء وينصرهم على الأعداء. ويرفع الصالحين إلى أعلى عِلِيين، ويرفع الحق، ويرفع المؤمنين بالإسعاد، ويرفع الأولياء بِالتقريب والنصر، وكل من تولاه حقًا وعدْلًا، والرافع من تجلّى باسمه الرافع فَرَفَع السماء بِغير عَمَد. إذًا الرفع مادي ومعنوي؛ يرفع السماء بِغير عمد، ويرفع ذِكر رسول الله ، فعندما يستقيم الإنسان ويُخلِص لله - عز وجل - تصبح له مكانة كبيرة في المجتمع، تفوق مرتبته العِلمية واختصاصه وحِرفَته، فالعلماء قديمًا كان أحدهم نجارًا، والآخر دولاتي، والآن أصبح لهم مكان رفيع في المجتمع، فقد كان الشيخ بدر الدين الحسني إذا غَضِب يغضب لِغَضْبته مِليون إنسان لا يسألونه فيم غَضِب.
والرافع من تجلّى باسمه الرافع فرَفَع السماوات بِغير عَمَدٍ ورفع الغَمام على مَتْن الهواء ورفع الطيور في الفضاء، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك: ١٩].
والرافع: هو الذي رفع مقام الأولياء في الحياة؛ بِخُضوع القلوب لهم، وما أخلص عبْد لله، إلا جعل قلوب المؤمنين تهْفو إليه بِالموَدَّة والرحمة؛ فهذا رفع، فهناك إنسان لا أحد يلتفت له، لا تتمنى دعْوته، ولا الجلوس معه منبوذ، ملعون، مُبْعَدْ، أما المؤمن فبِإخلاصه لله وإقباله إليه واستقامته على أمره يخلق الله مَوَدَّة في قلوب الآخرين له. إذا أحب الله عبدًا أوْدع في قلوب العباد محبته، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩].
أيْ: أحبك الخلق بِحُبي لك، هذا الرافع.
أقسِم بالله ولا أحنث إن شاء الله، ما من أحد يطيع الله كما أراد، ويُخلص لله- عز وجل - كما يحب إلا رفع الله ذكِره؛ ورفَعه مادِّيًا ومعنَوِيًا، وفي كل شؤون حياته وهو من إكرام الله ومُكافَأته بعض الردود الإلهية الكريمة على إخلاص المؤمنين واستقامتهم، فالرافع: المُدَبِّر لشؤون خلقه؛ يرفع من تولاه إلى أُفُق المقربين، كما يخفض من عصاه إلى أسفل سافِلين. يرفع شأن المستضعفين.
لما خافت أم موسى - عليه السلام - أن يُذبح ابنها موسى وألْقَته في اليم بأمر الله - عز وجل - فالتقطه آل فرعون، ما من طفلٍ كان يولد في بني إسرائيل إلا وذُبِح، إلا هذا الطفل فقد أراد فرعون أن يقتل كل أبناء بني إسرائيل، لأنه رأى في الرؤيا أن طفلًا منهم سَيَقضي على مُلْكِه، والطفل الذي سَيَقضي على مُلْكِه رباه في قصره وهو لا يشعر، قال تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ [القصص: ٨]، واللام هنا لام المآل وليست لام التعليل.
فالرافع يرفع من تولاه إلى أُفق المقربين، كما يخفض من عصاه إلى أسفل السافلين ويرفع شأن المستضعفين، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٤-٥].
كم من مستضعف، علاَ شأنه، وتألّق نجمه، وارتفع مكانه؟ وكم من فقير صار غَنِيا؟ وكم من مستضعفٍ صار قوِيًا؟ وكم من مهمَلٍ صار ذا شأنٍ؟
مادة الرفع وردت في القرآن الكريم في مواضِع عِدة؛ ومن أبرز هذه المواضع قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣].
وقوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ٨٣].
وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٦٥].
فهناك مجند، وهناك رئيس أركان، وهناك ممرض، وهناك معلِّم بِقَرية وهناك أستاذ جامعة، كما يوجد بائع مُتَجوِّل وهناك رئيس غرفة تجارة؛ ورفع بعضكم فوق بعض درجات. فإذا رفعك الله تعالى فيجب عليك أن تشكره على هذه الرِّفعة، وينبغي أن تُوَظّفها في طاعة الله، قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٦٥].
وقال: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [آل عمران: ٥٥].
وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٦-٥٧].
أيها الإخوة:
إذا تجلّى الله إلى قلب المؤمن بِنور اسمه الرافع رفَعَ ذلك النور هذا المؤمن إلى العُلا الأعلى فَصَار مُرْتَفِعًا في الأكوان، وإذا تجلّى الله إلى قلب المؤمن بِنور اسمه الرافع جعله مُتَألِّقًا كالكوكب الدُرِيّ، وهذا الإنسان المؤمن لا ينظر إلى ما في أيدي الناس؛ بل يرفع هِمَّته إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة:
اسم الرافع: من ألْصق الأسماء بِحياة المؤمن لأنَّ حياة المؤمن بعد أن يمتحِنه الله تُصْبِح سلسلة إكرامات، والمؤمن كما قلت في دروس سابقة يمُرُّ بأطوارٍ ثلاثة: - طَوْر يُؤَدَّبُ فيه على تقصيره وبعض مُخالفاته، - وطَوْرٍ يُبْتلى فيه ويُمتحن؛ فإذا نجح في الطورين وأظن هذا في الآخرة: ألم يؤذ موسى - عليه السلام - بعد طور التأديب والامتحان لقد أوذي في طور الرسالة من قبل البشر … فالحياة الطيبة في الآخرة … استقرّت حياته على التكريم وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧].
فاسم الرافع ينال من فضله تعالى كل مؤمن طائع لله، ومُخْلِص له، في التقرب إليه. وأيّةُ آية يختص بها النبي - عليه الصلاة والسلام - قال بعض العلماء: إن لكل مؤمن منها نصيبًا بِقدْر إخلاصه وطاعته؛ فقوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤].
من معانيها: أن كل مؤمن يقتدي بِرسول الله، ويقتفي أثره، ويتبع سنته، يناله شيء من ما نال النبي من رِفْعة شأنٍ، وعلُو قدْر وسيرة العلماء العاملين الصالحين الصادقين والمخلصين في التاريخ الإسلامي تُؤكّد هذه الحقيقة.
من أدعية هذا الاسم: إلهي تجَلَّيت باسمك الرافع؛ فرَفعْت قدْر أنبيائك وأولِيائك، أظهرت لهم المعجزات، وأبْرَزت لهم الكرامات، فَعَظَّمتهم القلوب، ورفَعْتَ أعمالهم إليك بِالقبول، ورفَعْتَ لهم أرواحك بالوصول، ورفَعتَ هِمَّتهم فَلَم يطلبوا سِواك، لأن عيون أرواحهم تراك، فاجعل لنا أوْفر حظ من نور اسمك الرافع، حتى يُرفع شأننا فَنَرْفع أحبابك.
هذه بعض أدعية اسم الرافع وسَنَنْتقل في درسٍ آخر إلى اسم آخر من أسماء الله الحُسنى. ونرجو ربنا أن نكون عند حُسْن الظن بنا وأن نستحِق أن يرفعنا الله - عز وجل - رَفْعًا مادِيًا ومعنوِيًا حتى نقطف ثِمار الإيمان الحق الذي هو في الحقيقة التِزام واستِقامة ومؤاثرة.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال

مواضيع ذات صلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة 2013-2017 ل فذكر
تصميم : مستر ابوعلى