404
نعتذر , لا نستطيع ايجاد الصفحة المطلوبة

شرح حديث (إنما الأعمال بالنيات) الأربعون النووية لابن عثيمين

الاربعون النووية
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح - حديث - ( انما - الاعمال - بالنيات - ) الاربعون - النووية - لابن - عثيمين
شرح حديث (إنما الأعمال بالنيات) الأربعون النووية

شرح الحديث الأول: إنما الأعمال بالنيات
عن أميرِ المؤمنينَ أبي حفصٍ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ يقول ُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلي اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
رواه إماما المحدِّثينَ: أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ المغيرةِ ابنِ بَرْدِزْبَه البُخاريُّ. وأبو الحُسَيْنِ مسلِمُ بنُ الحجَّاجِ بنِ مُسلمٍ القُشيْريُّ النَّيْسَابوريُّ في صحيحيهما اللَّذين هما أصحُّ الكتُبِ الْمُصَنَّفةِ.
الشرح
عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ وهو أبو حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- آلت إليه الخلافة بتعيين أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- له، فهو حسنة من حسنات أبي بكر، ونصبه في الخلافة شرعي، لأن الذي عينه أبو بكر، وأبو بكر تعين بمبايعة الصحابة له في السقيفة، فخلافته شرعية كخلافة أبي بكر، ولقد أحسن أبو بكر اختيارًا حيث اختار عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
وفي قوله سَمِعْتُ دليل على أنه أخذه من النبي بلا واسطة. والعجب أن هذا الحديث لم يروه عن رسول الله إلا عمر -رضي الله عنه- مع أهميته، لكن له شواهد في القرآن والسنة. ففي القرآن يقول الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: ٢٧٢] فهذه نية، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: ٢٩] وهذه نيّة. وقال النبي لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: «وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِيْ بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَهُ فِي فِيّ أمْرَأَتِك» فقوله: تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ فهذه نية، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة.
ولفظ الحديث انفرد به عمر -رضي الله عنه- لكن تلقته الأمة بالقبول التام، حتى إن البخاري رحمه الله صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث.
قوله: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ مَا نَوَى» لهذه الجملة من حيث البحث جهتان: نتكلم أولًا على ما فيه من البلاغة:
فقوله: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فيه من أوجه البلاغة الحصر، وهو: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن (إنما) تفيد الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم، فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائمًا. وكذلك قوله : «وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ مَا نَوَى».
وفي قوله : «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ» من البلاغة: إخفاء نية من هاجر للدنيا، لقوله: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» ولم يقل: إلى دنيا يصيبها، والفائدة البلاغية في ذلك هي: تحقير ما هاجر إليه هذا الرجل، أي ليس أهلًا لأن يُذكر، بل يُكنّى عنه بقوله: إلى ما هاجر إليه.
وقوله: مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ الجواب: فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فذكره تنويهًا بفضله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ ولم يقل: إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، لأن فيه تحقيرًا لشأن ما هاجر إليه وهي: الدنيا أو المرأة.
أما من جهة الإعراب، وهو البحث الثاني: فقوله : إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ مبتدأ وخبر، الأعمال: مبتدأ، والنيات: خبره.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ مَا نَوَى أيضًا مبتدأ وخبر، لكن قُدِّم الخبر على المبتدأ؛ لأن المبتدأ في قوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ مَا نَوَى هو: ما نوى متأخر.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ هذه جملة شرطية، أداة الشرط فيها: مَنْ، وفعل الشرط: كانت، وجواب الشرط: فهجرته إلى الله ورسوله.
وهكذا نقول في إعراب قوله: وَمَنْ كَأنَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا.
أما في اللغة فنقول:
الأعمال جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها.
فالأعمال القلبية: ما في القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
والأعمال النطقية: ما ينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولا أعلم شيئا من الجوارح أكثر عملًا من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.
الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، النيات: جمع نية وهي: القصد. وشرعًا: العزم على فعل العبادة تقرّبًا إلى الله تعالى، ومحلها القلب، فهي عمل قلبي ولا تعلق للجوارح بها.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ أي لكل إنسانٍ مَا نَوَى أي ما نواه.
وهنا مسالة: هل هاتان الجملتان بمعنى واحد، أو مختلفتان؟
الجواب: يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد، ومعنى التأسيس: أن الثانية لها معنى مستقل. ومعنى التوكيد: أن الثانية بمعنى الأولى. وللعلماء -رحمهم الله- في هذه المسالة رأيان، يقول أولهما: إن الجملتان بمعنى واحد، فقد قال النبي : إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وأكد ذلك بقوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ مَا نَوَى.
والرأي الثاني يقول: إن الثانية غير الأولى، فالكلام من باب التأسيس لا من باب التوكيد.
والقاعدة: أنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيسًا أو توكيدًا فإننا نجعله تأسيسًا، وأن نجعل الثاني غير الأول، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب.
والصواب: أن الثانية غير الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل لهذا ما فرعه عليه النبي في قوله: «فمَنْ كَأنَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ» وعلى هذه فيبقى الكلام لا تكرار فيه.
والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
وتمييز العادات من العبادات مثاله:
أولًا: الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالًا لأمر الله -عزّ وجل- في قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: ٣١] فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة.
ثانيًا: الرجل يغتسل بالماء تبردًا، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول عادة، والثاني: عبادة، ولهذا لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر للتبرد ثم صلى فلا يجزئه ذلك، لأنه لا بدَّ من النية، وهو لم ينو التعبّد وإنما نوى التبرّد.
ولهذا قال بعض أهل العلم: عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات أهل اليقظة عبادات. عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة.
وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالًا لأمر الله، يريد إبقاء نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة. ورجل آخر لبس ثوبًا جديدًا يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا لا يؤجر، وآخر لبس ثوبًا جديدًا يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني، فهذا يؤجر. ورجل آخر لبس يوم الجمعة أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسيًا بالنبي ، فهو عبادة.
تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.
إذًا المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أو تمييز العبادات عن العادات.
واعلم أن النية محلها القلب، ولا يُنْطَقُ بها إطلاقًا، لأنك تتعبّد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله تعالى، عليم بما في قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لايعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ما توسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك، وحاضرك. ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولاعن أصحابه -رضوان الله عليهم- أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرًّا أو جهرًا، خلافًا لمن قال من أهل العلم: إنه ينطق بها جهرًا، وبعضهم قال: ينطق بها سرًّا، وعللوا ذلك من أجل أن يطابق القلب اللسان.
يا سبحان الله، أين رسول الله عن هذا؟ لوكان هذا من شرع الرسول لفعله هو وبيّنه للناس، يُذكر أن عاميًّا من أهل نجد كان في المسجد الحرام أراد أن يصلي صلاة الظهر وإلى جانبه رجل لا يعرف إلا الجهر بالنيّة، ولما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي كان ينطق بالنية: اللهم إني نويت أن أصلي صلاة الظهر، أربع ركعات لله تعالى، خلف إمام المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبّر قال له العامي: اصبر يا رجل، بقي عليك التاريخ واليوم والشهر والسنة، فتعجّب الرجل.
وهنا مسالة: إذا قال قائل: قول المُلَبِّي: لبّيك اللهم عمرة، ولبيك حجًّا، ولبّيك اللهم عمرة وحجًّا، اليس هذا نطقًا بالنّية؟
فالجواب: لا، هذا من إظهار شعيرة النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه لولم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك. ولهذا ليس من السنّة أن نقول ما قاله بعضهم: اللهم إني أريد نسك العمرة، أو أريد الحج فيسّره لي، لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولا دليل. إذًا أنكر على من نطق بها، ولكن بهدوء بأن أقول له: يا أخي هذه ما قالها النبي ولا أصحابه، فدعْها.
فإذا قال: قالها فلانٌ في كتابهِ الفلاني؟
فقل له: القول ما قال الله تعالى، ورسوله .
وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ مَا نَوَى، هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها تفاوتًا عظيمًا، حيث تجد رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب أو مما بين السماء والأرض في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
وتجد شخصين يطلبان العلم في التّوحيد، أو الفقه، أو التّفسير، أو الحديث، أحدهما بعيد من الجنّة والثاني قريب منها، وهما يقرآن في كتاب واحد وعلى مدرّسٍ واحد. فهذا رجل طلب دراسة الفقه من أجل أن يكون قاضيًا والقاضي له راتبٌ رفيعٌ ومرتبة ٌرفيعة، والثاني درس الفقه من أجل أن يكون عالمًا معلّمًا لأمة محمدٍ ، فبينهما فرق عظيم. قال النبي : «مَنْ طَلَبَ عِلْمَا وَهُوَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لا يُرِيْدُ إِلاِّ أَنْ يَنَالَ عَرَضَا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ» أخلص النية لله -عزّ وجل.
ثم ضرب النبي مثلًا بالمهاجر فقال: فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ الهجرة في اللغة: مأخوذة من الهجر وهو التّرك.
وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وهنا مسالة: هل الهجرة واجبة أو سنة؟
والجواب: أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلا يتم إسلامه إذا كان لا يستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كهجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة. 
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله، أي: يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: ٢٩] إذًا يريد الله: أي يريد وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.
ويريد رسول الله: ليفوز بصحبته ويعمل بسنته ويدافع عنها ويدعو إليها والذبّ عنه، ونشر دينه، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرَا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعَا» فإذا أراد الله، فإن الله تعالى، يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل.
وهنا مسالة: بعد موت الرسول هل يمكن أن نهاجر إليه -عليه الصلاة والسلام؟
والجواب: أما إلى شخصه فلا، ولذلك لا يُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول ، لأنه تحت الثرى، وأما الهجرة إلى سنّته وشرعه فهذا مما جاء الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلدٍ لنصرة شريعة الرسول والذود عنها. فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين، والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته حال حياته، وبعد مماته إلى شريعته فقط.
نظير هذا قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرسول} [النساء: ٥٩] إلى الله دائمًا، وإلى الرسول نفسه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته. فمن ذهب من بلدٍ إلى بلد ليتعلم الحديث، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوّجها، بأن خطبها وقالت لا أتزوجك إلا إذا ا حضرت إلى بلدي فهجرته إلى ما هاجر إليه. فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا بأن علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح، فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها، وليس له إلا ما أراد. وإذا أراد الله -عزّ وجل- الا يحصل على شيء لم يحصل على شيء.
قوله -رحمه الله-: رواه إماما المحدّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري من بخارى وهو إمام المحدّثين ومسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب المصنّفة أي: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهما أصحّ الكتب المصنّفة في علم الحديث، ولهذا قال بعض المحدّثين: إن ما اتفقا عليه لا يفيد الظن فقط بل يفيد العلم.
وصحيح البخاري أصحّ من صحيح مسلم، لأن البخاري -رحمه الله- يشترط في الرواية أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، وأما مسلم -رحمه الله- فيكتفي بمطلق المعاصرة مع إمكان اللقيّ وإن لم يثبت لقيه، وقد أنكر على من يشترط اللقاء في أول الصحيح إنكارًا عجيبًا، فالصواب ما ذكره البخاري -رحمه الله- أنه لا بدَّ من ثبوت اللقي. لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم -رحمه الله- أحسن من سياق البخاري، لأنه -رحمه الله- يذكر الحديث ثم يذكر شواهده وتوابعه في مكان واحد، والبخاري -رحمه الله- يفرِّق، ففي الصناعة صحيح مسلم أفضل، وأما في الرواية والصحة فصحيح البخاري أفضل.
تشاجر قومٌ في البخاري ومسلم
وقالوا: أيّ زين تقدّم
فقلت: لقد فاق البخاري صحة لديّ
كما فاق في حسن الصناعة مسلم
قال بعض أهل العلم: ولولا البخاري ما ذهب مسلم ولا راح، لأنه شيخه.
فالحديث إذًا صحيح يفيد العلم اليقيني، لكنه ليس يقينيًا بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن .
من فوائد هذا الحديث:
١ - هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، ولهذا قال العلماء: مدار الإسلام على حديثين: هما هذا الحديث، وحديث عائشة: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ» فهذا الحديث عمدة أعمال القلوب، فهو ميزان الأعمال الباطنة، وحديث عائشة: عمدة أعمال الجوارح، مثاله:
رجل مخلص غاية الإخلاص، يريد ثواب الله -عزّ وجل- ودار كرامته، لكنه وقع في بدع كثيرة. فبالنظر إلى نيّته: نجد أنها نيّة حسنة. وبالنظر إلى عمله: نجد أنه عمل سيئ مردود، لعدم موافقة الشريعة.
ومثال آخر: رجلٌ قام يصلّي على أتمّ وجه، لكن يرائي والده خشية منه، فهذا فقد الإخلاص، فلا يُثاب على ذلك إلا إذا كان أراد أن يصلي خوفًا أن يضربه على ترك الصلاة فيكون متعبّدًا لله تعالى، بالصلاة.
٢ - من فوائد الحديث: أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض، والعبادات عن المعاملات لقول النبي : «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ولنضرب مثلًا بالصلاة، رجل أراد أن يصلي الظهر، فيجب أن ينوي الظهر حتى تتميز عن غيرها. وإذا كان عليه ظُهْرَأن، فيجب أن يميز ظهر أمس عن ظهر اليوم، لأن كل صلاة لها نية.
ولو خرج شخصٌ بعد زوال الشمس من بيته متطهرًا ودخل المسجد وليس في قلبه أنها صلاة الظهر، ولا صلاة العصر، ولا صلاة العشاء، ولكن نوى بذلك فرض الوقت، فهل تجزئ أو لا تجزئ؟
الجواب: على القاعدة التي ذكرناها سابقًا: لا تجزئ؛ لأنه لم يعين الظهر، وهذا مذهب الحنابلة.
وقيل تجزئ: ولا يشترط تعيين المعيّنة، فيكفي أن ينوي الصلاة وتتعين الصلاة بتعيين الوقت. وهذه رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فإذا نوى فرض الوقت كفى، وهذا القول هو الصحيح الذي لا يسع الناس العمل إلا به، لأنه أحيانًا يأتي إنسان مع العجلة فيكبر ويدخل مع الإمام دون أن يقع في ذهنه أنها صلاة الظهر، لكن قد وقع في ذهنه أنها هي فرض الوقت ولم يأتِ من بيته إلا لهذا، فعلى المذهب نقول: أعدها، وعلى القول الصحيح نقول: لا تعدها، وهذا يريح القلب، لأن هذا يقع كثيرًا، حتى الإمام أحيانًا يسهو ويكبر على أن هذا فرض الوقت، فهذا على المذهب لا بدَّ أن يعيد الصلاة، وعلى القول الرّاجح لا يعيد.
٣ - من فوائد الحديث: الحثّ على الإخلاص لله -عزّ وجل- لأن النبي قسّم الناس إلى قسمين:
قسم: أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة.
وقسم: بالعكس، وهذا يعني: الحث على الإخلاص لله -عزّ وجل.
والإخلاص يجب العناية به والحث عليه، لأنه هو الركيزة الأولى المهمة التي خلق الناس من أجلها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦].
٤ - ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي وذلك بتنويع الكلام وتقسيم الكلام، لأنه قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وهذا للعمل «وَإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ مَا نَوَى» وهذا للمعمول له.
ثانيهما: تقسيم الهجرة إلى قسمين: شرعية وغير شرعية، وهذا من حسن التعليم، ولذلك ينبغي للمعلم أن لا يسرد المسائل على الطالب سردًا لأن هذا يُنْسِي، بل يجعل أصولًا، وقواعد وتقييدات، لأن ذلك أقرب لثبوت العلم في قلبه، أما أن تسرد عليه المسائل فما أسرع أن ينساها.
٥ - من فوائد الحديث: قرن الرسول  مع الله تعالى، بالواو حيث قال: إلى الله ورسوله ولم يقل: ثم رسوله، مع أن رجلاً قال للرسول  مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَه فما الفرق؟ 
والجواب: أما ما يتعلّق بالشريعة فيعبر عنه بالواو، لأن ما صدر عن النبي  من الشرع كالذي صدر من الله تعالى، كما قال: {مَنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: ٨٠].
وأما الأمور الكونية: فلا يجوز أن يُقرن مع الله أحدٌ بالواو أبداً، لأن كل شيء تحت إرادة الله تعالى، ومشيئته. 
فإذا قال قائلٌ: هل ينزل المطر غداً؟ 
فقيل: الله ورسوله أعلم، فهذا خطأ، لأن الرسول  ليس عنده علم بهذا. 
مسألة: وإذا قال: هل هذا حرامٌ أم حلال؟ 
قيل في الجواب: الله ورسوله أعلم، فهذا صحيح، لأن حكم الرسول في الأمور الشرعية حكم الله تعالى، كما قال -عزّ وجل-: {مَنْ يُطِعِ الرسول صل الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: ٨٠].
مسالة: أيهما أفضل العلم أم الجهاد في سبيل الله؟
والجواب: العلم من حيث هو علم أفضل من الجهاد في سبيل الله، لأن الناس كلهم محتاجون إلى العلم، وقد قال الإمام أحمد: العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيّته. ولا يمكن أبدًا أن يكون الجهاد فرض عين لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: ١٢٢].
فلوكان فرض عين لوجب على جميع المسلمين: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: ١٢٢] أي: وقعدت طائفة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ١٢٢]، ولكن باختلاف الفاعل واختلاف الزمن، فقد نقول لشخص: الأفضل في حقّك الجهاد، والآخر الأفضل في حقك العلم، فإذا كان شجاعًا قويًا نشيطًا وليس بذاك الذكي فالأفضل له الجهاد؛ لأنه اليَق به، وإذا كان ذكيًّا حافظًا قوي الحجة فالأفضل له العلم وهذا باعتبار الفاعل. أما باعتبار الزمن فإننا إذا كنّا في زمن كثر فيه العلماء واحتاجت الثغور إلى مرابطين فالأفضل الجهاد، وإن كنّا في زمن تفشّى فيه الجهل وبدأت البدع تظهر في المجتمع وتنتشر فالعلم أفضل، وهناك ثلاثة أمور تحتّم على طلب العلم:
١ - بدع بدأت تظهر شرورها.
٢ - الإفتاء بغير علم.
٣ - جدل كثير في مسائل بغير علم.
وإذا لم يكن مرجّحًا فالأفضل العلم
٦ - ومن فوائد الحديث: أن الهجرة هي من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله، وكل عمل يقصد به الله ورسوله فإنه من الأعمال الصالحة لأنك قصدت التقرّب إلى الله والتقرب إلى الله هو العبادة.
مسالة: هل الهجرة واجبة أم مستحبة؟
الجواب: فيه تفصيل، إذا كان الإنسان يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلنه ولا يجد من يمنعه في ذلك، فالهجرة هنا مستحبة. وإن كان لا يستطيع فالهجرة واجبة وهذا هو الضابط للمستحبّ والواجب. وهذا يكون في البلاد الكافرة، أما في البلاد الفاسقة -وهي التي تعلن الفسق وتظهره- فإنا نقول: إن خاف الإنسان على نفسه من أن ينزلق فيما انزلق فيه أهل البلد فهنا الهجرة واجبة، وإن لا، فتكون غير واجبة. بل نقول إن كان في بقائه إصلاح، فبقاؤه واجب لحاجة البلد إليه في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والغريب أن بعضهم يهاجر من بلد الإسلام إلى بلد الكفر لأنه إذا هاجر أهل الإصلاح من هذا البلد، من الذي يبقى لأهل الفساد، وربما تنحدر البلاد أكثر بسبب قلة أهل الإصلاح وكثرة أهل الفساد والفسق. لكن إذا بقي ودعا إلى الله بحسب الحال فسوف يصلح غيره، وغيره، يصلح غيره حتى يكون هؤلاء على أيديهم صلاح البلد، وإذا صلح عامة الناس فإن الغالب أن من بيده الحكم سيصلح، ولو عن طريق الضغط، ولكن الذي يفسد هذا -للأسف- الصالحون أنفسهم، فتجد هؤلاء الصالحين يتحزبون ويتفرقون وتختلف كلمتهم من أجل الخلاف في مسالة من مسائل الدين التي يغتفر فيها الخلاف، هذا هو الواقع، لا سّيما في البلاد التي لم يثبت فيها الإسلام تمامًا، فربما يتعادون ويتباغضون ويتناحرون من أجل مسالة رفع اليدين في الصلاة، وأقرأ عليكم قصة وقعت لي شخصيًا في منى، في يوم من الأيام أتى لي مدير التوعية بطائفتين من إفريقيا تكفّر إحداهما الأخرى، على ماذا؟ قال: إحداهما تقول: السنة في القيام أن يضع المصلي يديه على صدره، والأخرى تقول السنة أن يُطلق اليدين، وهذه المسالة فرعية سهلة ليست من الأصول والفروع، قالوا: لا، النبي
يقول: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِيْ فَلَيْسَ مِنِّيْ» وهذا كفر تبرّأ منه الرسول فبناء على هذا الفهم الفاسد كفّرت إحداهما الأخرى.
فالمهم: أن بعض أهل الإصلاح في البلاد التي ليست مما قوي فيها الإسلام يبدع ويفسق بعضهم بعضًا، ولو أنهم اتفقوا وإذا اختلفوا اتسعت صدورهم في الخلاف الذي يسوغ فيه الخلاف وكانوا يدًا واحدة، لصلحت الأمة، ولكن إذا رأت الأمة أن أهل الصلاح والاستقامة بينهم هذا الحقد والخلاف في مسائل الدين، فستضرب صفحًا عنهم وعما عندهم من خير وهدى، بل يمكن أن يحدث ركوس ونكوس وهذا ما حدث -والعياذ بالله- فترى الشاب يدخل في الاستقامة على أن الدين خير وهدى وانشراح صدر وقلب مطمئن ثم يرى ما يرى من المستقيمين من خلاف حاد وشحناء وبغضاء فيترك الاستقامة لأنه ما وجد ما طلبه، والحاصل أن الهجرة من بلاد الكفر ليست كالهجرة من بلاد الفسق، فيقال للإنسان: اصبر واحتسب ولاسيما إن كنت مصلحًا، بل قد يقال: إن الهجرة في حقك حرام.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال

مواضيع ذات صلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة 2013-2017 ل فذكر
تصميم : مستر ابوعلى