البداية والنهاية ابن كثير
بناء البيت العتيق
[ذكر بناء البيت العتيق]
قال
الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ
مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ} [الْحَجِّ: ٢٦-٢٧].
وقال
تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٦-٩٧].
يذكر
تعالى، عن عبده ورسوله وصفيه وخليله، إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء عليه أفضل صلاة
وتسليم، أنه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون الله فيه،
وبوأه الله مكانه أي: أرشده إليه ودله عليه، وقد روينا عن أمير المؤمنين على بن
أبي طالب، وغيره أنه أرشد إليه بوحي من الله عز وجل، وقد قدمنا في صفة خلق
السماوات أن الكعبة بحيال البيت المعمور بحيث أنه لو سقط لسقط عليها، وكذلك معابد
السماوات السبع، كما قال بعض السلف: إن في كل سماء بيتا يعبد الله فيه أهل كل سماء
وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض فأمر الله تعالى، إبراهيم -عليه السلام- أن يبني له
بيتا يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السماء، وأرشده الله إلى مكان البيت
المهيأ له المعين لذلك منذ خلق السماوات والأرض.
كما
ثبت في الصحيحين: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة
الله إلى يوم القيامة». ولم يجئ في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل
الخليل -عليه السلام- ومن تمسك في هذا بقوله: {مَكَانَ
الْبَيْتِ} [الحج: ٢٦] فليس بناهض ولا ظاهر؛ لأن المراد مكانه المقدر في
علم الله، المقدر في قدره، المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم.
وقد
ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة، وأن الملائكة قالوا له: قد طفنا قبلك بهذا البيت. وأن
السفينة طافت به أربعين يوما أو نحو ذلك، ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل، وقد
قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها، فأما إن ردها الحق فهي مردودة، وقد قال
الله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٦].
أي: أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى البيت الذي ببكة قيل: مكة. وقيل: محلة
الكعبة: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:
٩٧]. أي: على أنه بناء الخليل والد الأنبياء من بعده وإمام الحنفاء من ولده الذين
يقتدون به، ويتمسكون بسنته.
ولهذا
قال: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: ٩٧]
أي: الحجر الذي كان يقف عليه قائما لما ارتفع البناء عن قامته فوضع له ولده هذا
الحجر المشهور ليرتفع عليه لما تعالى البناء وعظم الفناء، كما تقدم في حديث ابن
عباس الطويل، وقد كان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم
الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأخره عن البيت قليلا لئلا يشغل
المصلون عنده الطائفين بالبيت، واتبع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في هذا، فإنه
قد وافقه ربه في أشياء منها؛ في قوله لرسوله ﷺ: لو اتخذنا من مقام إبراهيم
مصلى. فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: ١٢٥]، وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في
الصخرة إلى أول الإسلام، وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:
وثور
ومن أرسى ثبيرا مكانه. وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت
حق البيت من بطن مكة. وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر
المسود إذ يمسحونه. إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ
إبراهيم في الصخر رطبة. على قدميه حافيا غير ناعل
يعني:
أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة.
ولهذا
قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: ١٢٧]. أي: في حال
قولهما: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: ١٢٧]. فهما في غاية الإخلاص والطاعة لله
عز وجل، وهما يسألان من الله السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة
العظيمة والسعي المشكور: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
[البقرة: ١٢٨].
والمقصود:
أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع في واد غير ذي زرع، ودعا لأهلها
بالبركة، وأن يرزقوا من الثمرات مع قلة المياه، وعدم الأشجار والزروع والثمار، وأن
يجعله حرما محرما وأمنا محتما، فاستجاب الله -وله الحمد- له مسألته، ولبى دعوته
وأتاه طلبته، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}
[العنكبوت: ٦٧]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ
لَدُنَّا} [القصص: ٥٧].
وسأل
الله أن يبعث فيهم رسولا منهم أي: من جنسهم وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة
لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية، بسعادة الأولى والآخرة، وقد استجاب الله
له فبعث فيهم رسولا، وأي رسول: ختم به أنبياءه ورسله، وأكمل له من الدين ما لم يؤت
أحدا قبله، وعم بدعوته أهل الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم في سائر
الأقطار والأمصار والأعصار إلى يوم القيامة كان هذا من خصائصه من بين سائر
الأنبياء لشرفه في نفسه، وكمال ما أرسل به، وشرف بقعته، وفصاحة لغته، وكمال شفقته
على أمته، ولطفه ورحمته، وكريم محتده، وعظيم مولده، وطيب مصدره ومورده؛ ولهذا
استحق إبراهيم الخليل -عليه السلام- إذ كان باني كعبة أهل الأرض أن يكون منصبه
ومحله وموضعه في منازل السماوات، ورفيع الدرجات عند البيت المعمور الذي هو كعبة
أهل السماء السابعة المبارك المبرور الذي يدخله كل يوم سبعون الفا من الملائكة
يتعبدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور، وقد ذكرنا في التفسير من
سورة البقرة صفة بناية البيت وما ورد في ذلك من الأخبار والآثار بما فيه كفاية فمن
أراده فليراجعه ثم، ولله الحمد.
فمن
ذلك ما قال السدي: لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، ثم لم يدريا أين
مكانه حتى بعث الله ريحا يقال له الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما
ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، وأتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس،
وذلك حيث يقول تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا
لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: ٢٦].
فلما
بلغا القواعد بنيا الركن قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه
هاهنا قال: يا أبت إني كسلان تعب. قال: علي ذلك. فانطلق وجاءه جبريل بالحجر الأسود
من الهند، وكان ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من
خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا؟
قال: جاء به من هو أنشط منك. فبنيا، وهما يدعوان الله: {رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: ١٢٧].
وذكر
ابن أبي حاتم: أنه بناه من خمسة أجبل، وأن ذا القرنين -وكان ملك الأرض إذ ذاك- مر
بهما وهما يبنيانه، فقال: من أمركما بهذا؟ فقال إبراهيم: الله أمرنا به. فقال: وما
يدريني بما تقول؟ فشهدت خمسة أكبش أنه أمره بذلك فآمن وصدق.
وذكر
الأزرقي: أنه طاف مع الخليل بالبيت، وقد كانت على بناء الخليل مدة طويلة، ثم بعد
ذلك بنتها قريش فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال مما يلي الشام على ما هي
عليه اليوم، وفي الصحيحين من حديث مالك، عن ابن شهاب، عن سالم أن عبد الله بن محمد
بن أبي بكر أخبر ابن عمر، عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: «الم تري أن قومك لما
بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم. فقلت: يا رسول الله الا تردها على قواعد
إبراهيم؟ فقال: لولا حدثان قومك -وفي رواية: لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية. أو
قال: بكفر- لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها
الحجر».
وقد
بناها ابن الزبير -رحمه الله- في أيامه على ما أشار إليه رسول الله ﷺ حسبما أخبرته خالته عائشة أم
المؤمنين عنه، فلما قتله الحجاج في سنة ثلاث وسبعين كتب إلى عبد الملك بن مروان
الخليفة إذ ذاك، فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بردها
إلى ما كانت عليه فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الحجر، ثم سدوا الحائط وردموا
الأحجار في جوف الكعبة فارتفع بابها الشرقي وسدوا الغربي بالكلية، كما هو مشاهد
إلى اليوم، ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين
ندموا على ما فعلوا وتأسفوا أن لو كانوا تركوه وما تولى من ذلك، ثم لما كان في زمن
المهدي بن المنصور استشار الإمام مالك بن أنس في ردها على الصفة التي بناها ابن
الزبير، فقال له: إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة، يعني: كلما جاء ملك بناها على
الصفة التي يريد فاستقر الأمر على ما هي عليه اليوم.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
مواضيع ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق