إرشاد السّاري شرح صحيح البخاري
إرشاد السّاري شرح صحيح البخاري: أَبْوَابُ
الكُسُوفِ، بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فِي الكُسُوفِ.
١٠٤٩، ١٠٥٠- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ:
أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ
عَذَابِ القَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَائِذًا
بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ» ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ،
فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ،
فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ
قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا
طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَسَجَدَ، ثُمَّ قَامَ
فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا
طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا
وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ
الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ، فَقَالَ مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
[الحديث ١٠٤٩ - طرفه في: ١٠٥٥، ١٣٧٢، ٦٣٦٦].
الشرح:
(باب التعوذ) بالله (من عذاب القبر في) صلاة (الكسوف) حين يدعو فيها، أو
بعد الفراغ منها.
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بفتح اللام، القعنبي (عن مالك)
إمام الأئمة، الأصبحي (عن يحيى بن سعيد) القطان (عن عمرة) بفتح العين وسكون الميم
(بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة، الأنصارية المدنية (عن عائشة زوج النبي ﷺ) رضي الله عنها.
(أن) امرأة (يهودية) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمها، (جاءت تسألها)
عطية (فقالت لها: أعاذك الله) أي: أجارك (من عذاب القبر، فسألت عائشة رضي الله
عنها، رسول الله ﷺ) مستفهمة منه عن قول اليهودية ذلك، لكونها
لم تعلمه قبل: (أيعذب الناس في قبورهم؟) بضم الياء بعد همزة الاستفهام، وفتح الذال
المعجمة المشدّدة (فقال رسول الله ﷺ: عائذًا بالله) على وزن فاعل، وهو من الصفات القائمة مقام المصدر، وناصبه
محذوف، أي: يعود عياذًا به، كقولهم: عوفي عافية، أو منصوب على الحال المؤكدة،
النائبة مناب المصدر، والعامل فيه محذوف، أي: أعوذ حال كوني عائذًا بالله (من ذلك)
أي: من عذاب القبر.
وفي رواية مسروق عن عائشة عند المؤلّف في الجنائز فسألت عائشة رضي الله
عنها، رسول الله ﷺ، عن عذاب القبر، فقال: "نعم عذاب
القبر حق". قالت عائشة: فما رأيت رسول الله ﷺ بعد صلّى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر.
ومناسبة التعوّذ عند الكسوف، أن ظلمة النهار بالكسوف، تشابه ظلمة القبر،
وإن كان نهارًا والشيء بالشيء يذكر، فيخاف من هذا كما يخاف من هذا، فيحصل الاتعاظ
بهذا في التمسك بما ينجي من غائلة الآخرة. قاله ابن المنير في الحاشية.
فإن قلت: هل كان عليه الصلاة والسلام، يعلم ذلك ولا يتعوّذ؟ أو كان يعوذّ
ولم تشعر به عائشة؟ أو سمع ذلك عن اليهودية فتعوّذ؟
أجاب التوربشتي: بأن الطحاوي نقل: أنه، عليه الصلاة والسلام، سمع اليهودية
بذلك، فارتاع ثم أوحي إليه بعد ذلك بفتنة القبر، أو: أنه عليه الصلاة والسلام، لما
رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية، وسألته عنه، أعلن به بعد ما كان يسر،
ليرسخ ذلك في عقائد أمته، ويكونوا منه على خيفة. اهـ.
(ثم ركب رسول الله ﷺ ذات غداة مركبًا) بفتح الكاف، وذات غداة هو من إضافة المسمى إلى اسمه، أو: ذات، زائدة (فخسفت الشمس) بالخاء والسين المفتوحتين (فرجع ضحى) بضم الضاد المعجمة مقصورًا منوّنًا ارتفاع النهار، ولا دلالة فيه على أنها لا تفعل في وقت الكراهة؛ لأن صلاته لها في الضحى وقع اتفاقًا فلا يدل على منع ما سواه (فمر رسول الله ﷺ بين ظهراني الحجر) بفتح الظاء المعجمة والنون على التثنية، والحجر بضم الحاء المهملة وفتح الجيم، جمع: حجرة بسكون الجيم، والألف والنون زائدتان، أي: ظهر الحجر، أو الكلمة كلها زائدة.
(ثم قام يصلّي) صلاة الكسوف (وقام الناس وراءه) يصلون (فقام قيامًا طويلاً)
قرأ فيه نحو سورة البقرة (ثم ركع ركوعًا طويلاً) نحو مائة آية (ثم رفع) من الركوع
(فقام قيامًا طويلاً) نحو آل عمران، ولأبي ذر، في نسخة، والأصيلي: ثم قام قيامًا.
وسقط في رواية ابن عساكر: ثم رفع (وهو) أي: القيام (دون القيام) وفي نسخة: دون
قيام (الأوّل، ثم ركع) ثانيًا (ركوعًا طويلاً) نحو ثمانين آية (وهو دون الركوع
الأوّل، ثم رفع) منه (فسجد) بفاء التعقيب، وهو يدل على عدم إطالة الاعتدال بعد
الركوع الثاني، وتقدم (ثم قام) من سجوده، ولأبي ذر: ثم رفع (فقام قيامًا طويلاً)
نحو سورة النساء (وهو دون القيام الأوّل، ثم رجع) ثالثًا (ركوعًا طويلاً) نحو
سبعين آية، (وهو دون الركوع الأوّل، ثم رفع فسجد) ظاهره: أن الثانية لم يقم فيها
قيامين، ولا ركع ركوعين. والظاهر أن الراوي اختصره.
نعم، في فرع اليونينية، كهي، مما رقم عليه علامة السقوط.
(ثم قام) أي: من الركوع، ولأبي ذر ثم رفع فقام قيامًا طويلاً نحوًا من
المائدة (وهو دون القيام الأوّل).
اختلف هل المراد به الأوّل من الثانية، أو يركع إلى الجميع فيكون كل قيام
دون الذي قبله؟ ومن ثم اختلف في القيام الأوّل من الثانية، وركوعه. ويأتي مزيد
لذلك إن شاء الله تعالى في: باب الركعة الأولى في الكسوف أطول.
(ثم ركع) رابعًا (ركوعًا طويلاً) نحو خمسين آية (وهو دون الركوع الأوّل، ثم
رفع فسجد) بفاء التعقيب أيضًا.
(وانصرف) من صلاته بعد التشهد بالسلام (فقال) عليه الصلاة والسلام (ما شاء
الله أن يقول) مما ذكر في حديث عروة، من أمره لهم بالصلاة والصدقة والذكر، وغير
ذلك (ثم أمرهم أن يتعوّذوا من عذاب القبر) وهذا موضع الترجمة على ما لا يخفى.
وفي الحديث: أن اليهودية كانت عارفة بعذاب القبر، ولعله من كونه في
التوراة، أو شيء من كتبهم؟ وإن عذاب القبر حق يجب الإيمان به.
وقد دل القرآن في مواضع على أنه حق، فخرّج ابن حبان في صحيحه، من حديث أبي
هريرة، عنه ﷺ في قوله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: ١٢٤] قال: عذاب القبر.
وفي الترمذي، عن عليّ: قال ما زلنا في شك من عذاب القبر حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى
زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: ١-٢].
وقال قتادة والربيع بن أنس في قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: ١٠١] أن أحدهما في الدنيا والآخر
عذاب القبر.
وحديث الباب أخرجه المؤلّف أيضًا في الجنائز، وكذا مسلم والنسائي.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
مواضيع ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق