إرشاد السّاري شرح صحيح البخاري
إرشاد السّاري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
العِيدَيْنِ، بَابُ: الحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ العِيدِ.
٩٤٩، ٩٥٠- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيَّ، حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ
وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى
الفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ:
مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ،
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا
فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ
وَالحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ،
وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟»
فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
«دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ» حَتَّى
إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: «حَسْبُكِ؟» قُلْتُ:
نَعَمْ، قَالَ: «فَاذْهَبِي».
[الحديث ٩٤٩ - أطرافه في: ٩٥٢، ٩٨٧،
٢٩٠٧، ٣٥٣٠، ٣٩٣١].
الشرح:
(باب) إباحة (الحراب والدرق) يلعب بها السودان (يوم العيد) للسرور به.
وبالسند قال: (حدّثنا أحمد) غير منسوب، ولأبي ذر وابن عساكر: حدّثنا أحمد
بن عيسى، وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج، واسم جده حسان التستري المصري الأصل،
المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
وفي رواية أبي عليّ بن شبويه، كما في الفتح: حدّثنا أحمد بن صالح، وهو
مقتضى إطلاق أبي عليّ بن السكن حيث قال: كل ما في البخاري: حدّثنا أحمد، غير منسوب
فهو ابن صالح.
(قال: حدّثنا ابن وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرنا عمرو) هو ابن الحرث
(أن محمد بن عبد الرحمن) بن نوفل بن الأسود (الأسدي) بفتح الهمزة والسين المهملة،
القرشي، المتوفى سنة سبع عشرة ومائة (حدّثه عن عروة) بن الزبير بن العوام (عن
عائشة) رضي الله تعالى عنها (قالت: دخل عليّ رسول الله) وللأصيلي، وابن عساكر،
وأبي ذر في نسخة: دخل عليّ النبي (ﷺ) أيام منى (وعندي جاريتان)، أي: دون البلوغ، من جواري الأنصار (تغنيان)،
ترفعان أصواتهما بإنشاد العرب، وهو قريب من الحداء، وتدففان، أي: تضربان بالدف بضم
الدال. إحداهما لحسان بن ثابت. كما في الطبراني، أو كلاهما لعبد الله بن سلام، كما
في أربعي السلمي.
وفي العيدين: لابن أبي الدنيا، من طريق فليح، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
بإسناد صحيح، عن عائشة قالت: "دخل علّي أبو بكر، والنبي ﷺ متقنع، وحمامة وصاحبتها تغنيان عندي". لكن لم يذكر أحد من مصنفى
أسماء الصحابة حمامة هذه. نعم، ذكر الذهبي في التجريد: حمامة أم بلال، اشتراها أبو
بكر وأعتقها.
(بغناء) بكسر المعجمة والمدّ يوم (بعاث) بضم الموحدة وفتح العين المهملة
آخره مثلثة، بالصرف وعدمه، وقال عياض: أعجمها أبو عبيد وحده وقال ابن الأثير:
أعجمها الخليل، لكن جزم وموسى في ذيل الغريب، وتبعه صاحب النهاية، بأنه تصحيف.
اهـ.
وهو اسم حصن وقع الحرب عنده بين الأوس والخزرج، وكان به مقتلة عظيمة،
وانتصر الأوس على الخزرج، واستمرت المقتلة مائة وعشرين سنة، حتى جاء الإسلام،
فألّف الله بينهم ببركة النبي ﷺ. كذا ذكره ابن إسحاق.
وتبعه البرماوي، وجماعة من الشرّاح، وتعقب بما رواه ابن سعد بأسانيده: أن
النفر السبعة: أو الثمانية، الذين لقوه عليه الصلاة والسلام بمنى، أول من لقيه من
الأنصار، كان من جملة ما قالوه، لما دعاهم إلى الإسلام والنصرة: إنما كانت وقعة
بعاث عام الأول، فموعدك الموسم القابل، فقدموا في السنة التي تليها فبايعوه البيعة
الأولى، ثم قدموا الثانية فبايعوه، وهاجر عليه الصلاة والسلام في أوائل التي
تليها. فدلّ ذلك على أن وقعة بعاث كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو المعتمد، ويأتي
مزيد لذلك، إن شاء الله تعالى، في أوائل الهجرة.
(فاضطجع) عليه الصلاة والسلام (على الفراش، وحوّل وجهه) للإعراض عن ذلك؛
لأن مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إليه، لكن عدم إنكاره يدل على تسويغ مثله على
الوجه الذي أقره، إذ أنه عليه الصلاة والسلام، لا يقرّ على باطل. والأصل التنزّه
عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتًا وكيفيةً، (ودخل أبو بكر)
الصديق (فانتهرني) أي: لتقريرها لهما على الغناء، وللزهري: فانتهرهما، أي:
الجاريتين لفعلهما ذلك. والظاهر على طريق الجمع أنه: شرك بينهن في الزجر.
(وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله ﷺ) بكسر الميم آخره هاء تأنيث. يعني: الغناء أو الدف؛ لأن المزمارة والمزمار
مشتق من الزمير، وهو الصوت الذي له صفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء،
وأضافها إلى الشيطان؛ لأنها تلهي القلب عن ذكر الله تعالى، وهذا من الشيطان.
وهذا من الصديق رضي الله عنه، إنكار لما سمع معتمدًا على ما تقرر عنده من
تحريم اللهو والغناء مطلقًا، ولم يعلم أنه ﷺ، أقرّهنّ على هذا القدر اليسير، لكونه دخل فوجده مضطجعًا، فظنه نائمًا،
فتوجه له الإنكار.
(فأقبل عليه رسول الله ﷺ فقال): يا أبا بكر «دعهما» أي: الجاريتين،
ولابن عساكر: "دعها"، أي: عائشة، وزاد في رواية هشام: "يا أبا بكر
إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا". فعرفه عليه الصلاة والسلام، الحال مقرونًا
ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أي: يوم سرور شرعي. فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر
في الأعراس.
قالت عائشة: (فلما غفل) أبو بكر، بفتح الفاء (غمزتهما فخرجتا) بفاء العطف
ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي، عن الحموي والمستملي: خرجتا بدون الفاء. بدل أو
استئناف.
(و) قالت عائشة: (كان) ذلك (يوم عيد)، وهذا حديث آخر، وقد جمعه مع السابق
بعض الرواة، وأفردهما آخرون. (يلعب السودان)، ولأبي ذر: يلعب فيه السودان،
وللزهري: والحبشة يلعبون في المسجد (بالدرق والحراب، فإما سألت النبي) ولأبي ذر عن
المستملي: فإما سألت رسول الله (ﷺ، وإما قال): «أتشتهين تنظرين» أي: النظر
إلى لعب السودان؟
(قلت: نعم) أشتهي، (فأقامني وراءه) حال كوني (خدي على خده) متلاصقين (وهو)
عليه الصلاة والسلام (يقول) للسودان، آذنًا لهم ومنشطًا.
«دونكم» بالنصب على الظرف بمعنى الإغراء، أي: الزموا هذا اللعب «يا بني
أرفدة» بفتح الهمزة وإسكان الراء وكسر الفاء، وقد تفتح وبالدال المهملة، وهو جدّ
الحبشة الأكبر. وزاد الزهري عن عروة: فزجرهم عمر، فقال النبي ﷺ: "أمنا بني أرفدة".
(حتى إذا مللت) بكسر اللام الأولى (قال): «حسبك»؟ أي: يكفيك هذا القدر؟
بحذف همزة الاستفهام المقدرة. كذا قاله البرماوي وغيره كالزركشي، وتعقبه في
المصابيح: بأنه لا داعي إليه، مع أن في جوازه كلامًا، اهـ.
يشير إلى ما نقله في حاشيته رحمه الله تعالى، على المغني، من تصريح بعضهم
بأن حذفها عند أمن اللبس من الضرورات.
وللنسائي، من رواية يزيد بن رومان: "أما شبعت؟ أما شبعت"؟ قالت:
فجعلت أقول لا. لأنظر منزلتي عنده.
وله من رواية أبي سلمة عنها، قلت: "يا رسول الله لا تعجل. فقام لي، ثم
قال: حسبك؟ قلت: لا تعجل"، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ
النساء مقامه لي، ومكاني منه.
(قلت: نعم) حسبي (قال): «فاذهبي».
فإن قلت: قولها: نعم، يقتضي فهمها الاستفهام، أجاب في المصابيح: بأنه ممنوع؛
لأن نعم تأتي لتصديق المخبر، ولا مانع من جعلها هنا كذلك.
واستدلّ به على جواز اللعب بالسلاح على طريق التدريب للحرب، والتنشيط له،
ولم يرد المؤلّف الاستدلال على أن حمل الحراب والدرق من سنن العيد، كما فهمه ابن
بطال، وإنما مراده الاستدلال على أن العيد يغتفر فيه من اللهو واللعب ما لا يغتفر
في غيره، فهو استدلال على إباحة ذلك، لا على ذنبه.
فإن قلت: قد اتفق على أن نظر المرأة إلى وجه الأجنبي حرام بالاتفاق، إذا
كان بشهوة وبغيرها على الأصح، فكيف أقرّ النبي ﷺ عائشة على رؤيتها للحبشة؟
أجيب: بأنها ما كانت تنظر إلى لعبهم بحِرابهم، لا إلى وجوههم وأبدانهم.
(باب) سنيّة (الدعاء في العيد) كذا زاده هنا أبو ذر في روايته عن الحموي، ومطابقته لحديث البراء الآتي إن شاء الله تعالى في قوله: يخطب، فإن الخطبة تشتمل على الدعاء كغيره.
وقد روى ابن عدي من حديث واثلة أنه: لقي النبي ﷺ يوم عيد، فقال: تقبل الله منّا ومنك، فقال: نعم، تقبل الله منّا ومنك.
لكن في إسناده محمد بن إبراهيم الشامي، وهو ضعيف، وقد تفرد به مرفوعًا
وخولف فيه، فروى البيهقي من حديث عبادة بن الصامت أنه: سأل رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: (ذاك فعل أهل الكتابين) وإسناده ضعيف أيضًا.
لكن في المحامليات بإسناد حسن، عن جبير بن نفير، أن أصحاب النبي ﷺ، كانوا إذا التقوا يوم العيد، يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منّا ومنك.
وقد ضرب في اليونينية على قوله: الدعاء في العيد، وهو ساقط في رواية ابن
عساكر. وقال ابن رشيد: أراه تصحيفًا، وكأنه كان فيه: اللعب في العيد، أي: فيناسب
حديث عائشة الثاني من حديثي الباب.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
مواضيع ذات صلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق